غزة | منذ 67 عاماً حتى اليوم، تسير الحاجّة أمّ جبر وشاح في طريق الآلام الفلسطيني. ثمّة جسر من نار ودم قطعته، بعد نكبة 1948 التي قادت معظم الفلسطينيين إلى مخيّمات اللجوء. يوميّاً، تستعيد ذكرى النكبة، ومعها تستعيد صورة طفلها إبراهيم الذي توفي في مخيّم النصيرات (وسط القطاع)، بعدما أنهكه المرض وهو بين ذراعيها. حملت وشاح بلدتها بيت عفا (قضاء غزّة) على ظهرها ومشت متعبة، لكنّ صغيرها لم يحتمل رحلة التهجير القسري، فأسلم الروح ومضى بعيداً عن زواريب المخيّمات.
من ذلك الطفل الذي كان يناغي، تبدأ الذكريات تسيل أمام وشاح الحكّاءة التي تعيش في مخيم البريج للاجئين (وسط القطاع). تعود بشريط ذكرياتها إلى سنوات طوال، يتراءى أمامها ظلّها الذي عبر من موت كاد أن يكون حتميّاً لها ولصغيرها إلى آخر حالف طفلها في غزّة، الذي كان أول من دُفن في مقبرة المخيم. بتنهيدة، تقول بلهجتها القروية: «بفارقش بالي ابني إبراهيم لمّا حط يهودي إيده على رقبته، وسألني هاد ولد ولا بنت. لو كان ولد رح نذبحو». ارتجف قلب وشاح خوفاً، ما استدعى منها أن تخفي هوية طفلها الجنسيّة، وتجيب: «هاي بنت». كان ذلك عندما انقضّت العصابات الصهيونية على بيت عفا، وأشعلت النيران في كلّ مكان، ناثرة الموت على الأطفال خصوصاً. «هدول مجرمين فش رحمة في قلوبهم، كانوا يقتلوا الناس وين ما إجو، وخصوصاً الأطفال، وأخذوا زلامنا في شاحنات، وطلبوا من النسوان يرجعوا عبيوتهن»، تضيف الحاجّة الثمانينية التي تكسو التجاعيد وجهها وتغطّي رأسها شاشة بيضاء.
وبعد استحالة البلدة كتلةً من لهيب ونار، نزحت النساء أفواجاً إلى خارجها، راكضات نحو حتفٍ قاسٍ كان يقذفهن من بلدة إلى بلدة ومن قرية إلى أخرى. هكذا، انتقلت وشاح من بيت عفا إلى كراتية ثم إلى الفالوجا وبربرة وهربيا، وصولاً إلى مخيّم النصيرات وسط قطاع غزّة. هنا، توقفت عند مجزرة دير ياسين التي اهتزّت بلدتها على وقعها آنذاك. بعيني الحاجة، تبدو المجزرة خارج حدود المنطق والمتخيّل في آن، تحكي: «بقدرش الزمن ينسينا هالمجزرة. لهلقيت بنتذكر قتل الأطفال والختايرة وبقر بطون الحوامل واغتصاب البنات. صحيح وقتها ارتعبنا من إنو تتكرر دير ياسين عنّا بالبلدة، بس رغم هيك كنا مصرين نبقى في البلد، وقلنا نموت ولا نطلع ونترك بلادنا، لكن اليهود المجرمين ما خلولنا مجال».
ووسط استذكار هذه الفظاعات الإنسانيّة وحالة الفقد الجماعية، لكن وشاح لا تأنس بصورة الفلسطيني الضعيف. وتقول بتعبيراتها الصارمة: «كذّابين بنص عينهم اللي بيحكوا إنو بعنا أرضنا، والله يا ستي شبابنا في بيت عفّا قاوموا لآخر نفس. صحيح ما كان عنّا إلا شوية بواريد، وانقتل منّا كثير، بس شبابنا تصدوا بشجاعة للعصابات الصهيونية». لا تزال الحاجّة، التي لا تخلع ثوبها الفلاحي عن جسدها الهرم، تستوطن ذاكرتها جبال البلدة التي كانت شاهدةً على جسارة الثوّار عام 1948. «كان الثوار ينزلوا من الجبال ويقاتلوا الصهاينة، ويرجعولها مرة ثانية. لهلقيت بتذكر وقت اشتبكوا مع اليهود لما إجوا من ناحية الفالوجة. قتلوا يهودي وقتها».
تصمت وشاح قليلاً، ثم تعود لتنبش من ذاكرتها القويّة قصصاً تحكي كيف كان الإسرائيليون يدلقون من السماء الموت على رؤوس الفلسطينيين أينما حلّوا، إذ كانوا يرمون من طائرات «القيزان» براميل تحمل كميات هائلة من المتفجرات. «كانت هاي المتفجرات تعمل جورة كبيرة في الأرض عشان يرعبوا الناس ويطلعوا من بلادهم»، تضيف وشاح. لم يشفع للمهجّرين عند الصهاينة خروجهم من قراهم، بل ظلّوا يتربّصون بهم أينما حطّت أقدامهم، ويحرقون كلّ شيء من حولهم. هنا، تتذكّر الحاجة إحدى محطات اللجوء قرب خط الهدنة، وهي منطقة حدودية تعجّ ببيوت البدو: «كان الصهاينة ينكدوا علينا وين ما رحنا، ما كانوا بدهم إيانا نظل عايشين، كانوا مصرين على إبادتنا عن الأرض. وقت ما سكنا قرب خط الهدنة، حرقوا كل بيوت البدو، واضطرينا وقتها ننزح لوادي غزّة».
وفي منطقة الوادي، خرج جبر عام 1950 إلى الحياة من رحم والدته الحاجّة وشاح، والذي زجّ الاحتلال به في السجن لمدّة 15 عاماً. ومنذ ذلك الوقت، تحمل وشاح مفتاح دارها في بيت عفا التي تركتها قسراً، عندما كانت تبلغ من العمر 20 عاماً. تخرج العجوز المفتاح العتيق من جيبها، وتقول بحدّة: «صرلي لاجئة أكثر من 67 سنة، بس والله لنرجع غصباً عن اليهود. ما فشروا يقلعونا من أراضينا. قالولنا اطلعوا أسبوع وبنرجعكم، ومرّ عمر طويل وأنا لسة بعيدة عن أرضي. بدعي الله ما أموت قبل ما أشوف داري وأرضي هناك».
الحاجة وشاح تحمّل الإنكليز المسؤولية عن النكبة بالدرجة الأولى، إذ تؤكد أنهم منعوا الفلسطينيين من حمل السلاح وفرضوا الضرائب على الفقراء والأراضي الزراعية، كما حفروا خنادق تحت الأرض لتسهيل هجرة الصهاينة وعصابات الهاغاناه. «لولد ولد ولدي، رح أضل أغرس حب الأرض وحق العودة»، بهذه الكلمات تنهي الحاجة حديثها معنا، وعيناها تنظران في الأفق إلى شمس تسطع في سماء بيت عفا. إنها حتميّة العودة التي لا تتراجع عن هاتين الكلمتين: «سنرجع يوماً».