جوزف سماحة
إذا كان صحيحاً أن القوى الملتقية في إطار «14 آذار» تمثّل الأكثرية النيابية والحكومية، وهو صحيح، جاز لنا اعتبار الوثيقة الصادرة عن اجتماع أول من أمس بمثابة «بيان وزاري جديد».
لقد حصل اللقاء على أعلى مستوى. وهو الأول من نوعه بعد الحرب. وجرى تقديم البيان كأنه ذو طابع تأسيسي لمرحلة جديدة. لم يقل أحد، رسمياً، إنه برنامج العمل الحكومي، لكن الحد الأدنى من إقامة الاعتبار للديموقراطية يفضي بنا إلى القول إن ما ورد في بيان البريستول هو دليل عمل ومرشد للوزارة العتيدة.
ليس أسهل من تبيان الفوارق بين ما قرأناه أمس وبين البيان الوزاري العتيد، وخصوصاً في كل ما له علاقة بالتعاطي مع القضايا التي يطرحها وجود «حزب الله» وسلاحه.
ولكن لا بد من تسجيل ملاحظة مهمة. لم يحصل التعديل السياسي نتيجة تعديل في التركيبة الوزارية. ولم يحصل نتيجة قيام تحالفات جديدة. ولم يحصل نتيجة انتزاع ثقة متجددة في مجلس النواب. لقد حصل ما حصل نتيجة الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان، نتيجة التدخل العنفي لإسرائيل في التوازن الداخلي، وذلك بغرض التأثير في توازناته.
ولقد كان الناطق باسم «14 آذار» واضحاً مثل البلّور عندما رد على سؤال فقال «نعم، حصل توافق على أن هذه المسألة غير قابلة للتنفيذ على طاولة الحوار قبل الحرب، والآن نريد أن نرى بعد الحرب». هذه ترجمة دقيقة لمقولة «لا عودة إلى ما قبل 12 تموز».
نعم، ثمّة قوى سياسية لبنانية ترى أن ميزان القوى الداخلي لم يعد كما كان، وذلك حصيلة الحرب. لا ضرورة، هنا، للكلام «الأخلاقي» على التخوين وعدم التخوين. إن أي تحليل بارد يدفع إلى الجزم بأن لإسرائيل حصة في الوضع اللبناني الناشئ، وهي حصة إن لم تحصل عليها مباشرة، فإنها تحصل عليها بواسطة التدويل المتمادي لهذا الوضع، وبواسطة تقاطع مطالبها مع مطالب فئة من اللبنانيين.
لا يفيد هؤلاء إنكار ذلك. ولا يضيرهم الاعتراف أو الإقرار بأن الصدف وحدها شاءت أن يكون تعريفهم للمصلحة الوطنية اللبنانية متقاطعاً، في هذه اللحظة، مع تعريف إسرائيل لمصالحها. وليس ضرورياً لأي مريب أن يقول خذوني، وذلك عن طريق الإكثار من «هجاء» إسرائيل و«عدوانيتها ووحشيتها وحقدها». والأهم من ذلك، يجب الكفّ عن المزحة السمجة القاضية باتهام الآخرين في لبنانيتهم وتصنيفهم بأنهم أدوات محور إقليمي، وذلك في معرض رفع العقيرة برفض التخوين.
إذا دقّقنا في بيان «14 آذار»، وسلّمنا بأن الحركة هي مرجعية سياسية للأكثرية النيابية والحكومية، صعُب علينا أن نتصوّر وجود «حزب الله» في الوزارة. فالبيان، في معظم بنوده وتفاصيله، مطالعة نقدية واتهامية للحزب. والبيان مؤشر إلى أن التوجّه هو إلى محاصرة الحزب وتصفيته كمقاومة. والبيان ينهض على قراءة للحرب تخالف قراءة الحزب جذرياً. أكثر من ذلك، البيان يستند إلى تقدير لنتائج الحرب لا علاقة له بتقدير الحزب (له علاقة، حصراً، بأكثر التقديرات الإسرائيلية تفاؤلاً).
طبعاً من حقّ «14 آذار» أن يكون هذا موقفها. ولكنها، في هذه الحالة، لا تعود تستطيع تقديم جواب مُقنع عن السؤال القائل: ما دامت المشكلة هي مع «الحزب» فلماذا إبعاد «التيار الوطني الحر» عن الحكومة ورفض «الاتحاد الوطني»؟ يخترع منظّرو «14 آذار»، كل يوم، سبباً جديداً. ويتجنّبون الذريعة الحقيقية، وهي أن الجناح المسلم في الحركة يطيب له الاستئثار والجناح المسيحي مضطر إلى الالتحاق. هذه هي طبيعة الأحجام في هذا الائتلاف. هناك مَن يحاول تزويرها بأن يلاحظ بعينه الثاقبة «الانهيار المريع» في شعبية ميشال عون (اعتراف متأخر بأن رفض المشاركة جاء قبل حصول هذا الانهيار!)، أو بأن يزعم أن الحكومة تعمل للصالح العام إلى الحد الذي يلغي أهمية الاشتراك العام في عملها!
غير أن ما لاحظناه في الاجتماع الأخير، هو «استغياب» مجلس المطارنة. فلقد كان البطريرك صفير الحاضر الغائب. ويعني ذلك أن هناك من حاول الاستفادة من بيان المطارنة الموارنة من أجل الإيحاء بأن بكركي هي الركن الثالث في التحالف إلى جانب قريطم والمختارة. وتقتضي الأمانة القول إن في البيان الماروني عناصر مهمة تتقاطع مع أطروحات «14 آذار». ولكن نظرة انتقائية فقط هي وحدها تستطيع الزعم بأن التطابق كامل. ومع ذلك، فإن قدراً من الانتهازية، يتجاوز المسموح به في أي لعبة سياسية، هو القادر، وحده، على محاولة تمرير هذه الخدعة البصرية (يبقى الوضع، في هذا المجال، أكثر رحمة من الذي نشهده عند التطرق إلى أحوال «الطائفة الشيعية الكريمة»). لا يُستحضر صغير في البريستول إلاّ لعزل عون، أي إلاّ لمفاقمة الوضع الذي يشكو منه البطريرك والمزاج المسيحي العام.
الخطورة في البيان الأخير، أنه لا يقترح تجميد «النقص» في الاتحاد الوطني عند حدوده الحالية. إنه يشير إلى احتمال المبالغة في هذا المجال والانتكاس عن الحالة الراهنة، وذلك عبر إحراج «حزب الله» وإظهار اللامبالاة حيال إخراجه. وقد لمّح سمير جعجع إلى ذلك في مقابلة مع جريدة تيار «المستقبل» معتبراً أن الحكومة (والبلاد) لا تواجه مشكلة التخفّف من بعض حمولتها.
قلنا إن هذا هو الخطير في البيان الأخير. غير أن ما يقلل من هذه الخطورة هو التقدير الموضوعي القائل بأن «14 آذار» لا تملك أدوات ولا آليات تنفيذ سياستها. الدعوة إلى إقالة رئيس الجمهورية إميل لحود اختُبرت وتلاشت عملياً. الكلام على «حسم قضية سلاح المقاومة» في القرار 1701 لا معنى له بعد الصيغة التوافقية لدور الجيش في الجنوب والتفسيرات الدولية المُعطاة لمهمات «يونيفيل». منع «التيار الوطني الحر» من طرق باب التغيير الحكومي ليس في يد أحد. تطويق «حزب الله» مغامرة لا تحتمل ردّاً جدياً من الطرف المعني عندما يقرر أن يردّ أو عندما يقرر إرخاء قبضته عن جمهوره.
البيان بهذا المعنى عنصر توتير فحسب. وربما كان في ذهن البعض نوعاً من «الهجوم الوقائي» قبل أن يؤدي استقرار غبار الحرب إلى انكشاف موازين القوى الداخلية فعلاً.
لا أحد يمكنه منع «البريستوليين» من الإفاضة في إرضاء النفس باستعراض كم أن الحرب أثبتت صحة تحليلاتهم وتقديراتهم. يكفي ألاّ تكون قد فعلت ذلك في بند واحد أو بندين. كلّا، أيها السادة، إن نتيجة الحرب لم تلتق مع «صحة تمنياتكم». إن كلامكم الإنشائي عن «قوة الردع» و«توازن الرعب» لا يوحي أن هذه التمنيات ستصبح وقائع في المدى المنظور.