جوزف سماحة
إن إقدام قوى «14 آذار» على زيادة العنف في خطابها حتى قبل انتهاء المواجهات، ومضيّها في ذلك خلال الأيام الماضية، هو نوع من التبرع المتسرّع الذي يخدم موضوعياً في تأمين تغطية سياسية لبنانية لأزمات المؤسسات الإسرائيلية. لم يكن مسموحاً، من وجهة نظر الرعاة الغربيين للعدوان، نشوء وضع تبدو فيه إسرائيل تواجه انعكاسات تعثرها ولبنان يبحث عن صيغة توافقية لاستثمار صموده. لا بد من أزمة هنا لامتصاص بعض مفاعيل الأزمة هناك.
أكثر من ذلك، كان من واجب «14 آذار» أن تفعل ما فعلته بحكم الهدف، أو أحد الأهداف، الذي وضعته إسرائيل لحربها، وهو إحداث تعديل سياسي في الوضع اللبناني. قامت بما قامت به على هذا الصعيد، بالأصالة عن نفسها والنيابة عن آخرين، ومن «المنطقي» أن يكون للآخرين مساهمة ما في هذه المعركة ذات المرامي المتقاطعة.
لا سبب آخر لما نشهده في لبنان هذه الأيام.
سيحتدم السجال قطعاً. سيكون عنيفاً. سيبقى، على الأرجح، قابلاً للإدارة والضبط. ستنتج منه معطيات سياسية جديدة.
يستخدم فريق «14 آذار» ترسانة من الحجج يفيد التوقف عندها لتجنيبها «الإفقار» الذي قد تتعرض له على أيدي مطلقيها.

■ سقوط نظرية الردع: نسمع هذا التعبير يتردد في أدبيات «14 آذار». والمقصود منه أن القرار الإسرائيلي بحرب على هذا المستوى أفقد المقاومة حجة رئيسية تقول بأنها أقامت «توازن رعب» مع إسرائيل. لا نعرف من أين جاء «استراتيجيو» الأكثرية بهذا التفسير. ليست وظيفة الردع منع أي حرب. وظيفته جعل هذه الحرب مكلفة ودفع الخصم إلى التفكير مرات، والتردد، قبل اللجوء إليها كحل سهل وبديهي. وما جرى في خلال المواجهات يثبت أن هذه الوجهة صحيحة وأن هذا هو الاستنتاج الذي خرجت به إسرائيل. إلاّ أن لبعض شخصيات الأكثرية رأياً آخر يوحي أحياناً أن المطلوب إيجاد بديل أرقى للردع الذي تمثله المقاومة. لكن الحقيقة في وادٍ آخر. فالمقصود هو اعتماد «نموذج مرجعيون» استراتيجية ردعية، والعودة إلى أن قوة لبنان في ضعفه.

■ احتكار الدولة لقرار السلم والحرب: كلام حق يراد به باطل. فالدولة، بهذا التعريف، هي كل اجتماع يعقده أركان «14 آذار». أما التوجه الفعلي فهو «الاحتكار» فعلاً من أجل إلغاء قرار الحرب ولو احتمالاً، ولو اضطراراً، ولو للدفاع عن النفس.

■ التصعيد: يُعدّ تصعيداً سياسياً خطيراً كل رد لتهمة، كل قول لرأي، كل تعبير عن الرغبة في توازن سياسي جديد. وهكذا فإن التأزم الحالي بدأ من خلال بيان «حزب الله» لا من خلال البيان السابق الذي أصدره اجتماع البريستول. ثمة طفولة مفرطة في هذا التقدير ناجمة عن الشعور الغامض الذي يعتري أركان «14 آذار» بأنهم لا يتحملون مسؤولية كلامهم أو أفعالهم. يكاد استغرابهم لرد «الحزب» يكون استغراباً بريئاً لإقدامه على معاملتهم كراشدين يعتدّ بمواقفهم. هذا «الدلع» هو دلع يميّز من يخوض غمار السياسة من دون أن يكون قد أنهك نفسه في استحقاق موقعه ومن دون أن يخامره شك في الطابع القطيعي لزبائنيته السياسية.

■ دليل ضعف: إذا امتنع الرد فهذا دليل ضعف. وإذا حصل الرد فهذا دليل ضعف مضاعف. الطرف الآخر، وهو هنا «حزب الله»، يضمّد، عبثاً، جراحه ويبحث عن مخرج من ورطته. يتحول السلوك الطفولي للأكثرية، هنا، إلى سلوك أبوي: دعوا نصر الله «يفش خلقه» فمن واجبنا، لبنانيين ومسؤولين، أن نستمع إلى الحشرجات الأخيرة التي ترافق حالة الاحتضار.

■ النصر والهزيمة: يستحيل على المواطنين أن يعرفوا، لدى مراجعة تصريحات «الأكثرية» إن كنا، في لبنان، وفي العلاقة مع إسرائيل، أمام نصر أو هزيمة. يُقال، أحياناً، إنه نصر لـ«حزب الله» وهزيمة للبنان. يقال، أحياناً، إن النصر صناعة الجميع وللحكومة الدور الأبرز فيه. يقال، أحياناً، إن الدولة انتصرت على الدويلة داخلها. يقال، أحياناً، إنه لا مجال لأي كلام على نصر أمام هذا الخراب كله. المهم أنه لا استقرار على رأي. يمكن أن تكون هذه تعددية مستحبّة. إلاّ أن المطلوب قدر من الوضوح لأنه شرط أساسي لسياسات داخلية وخارجية ولخيارات يصعب تأجيلها. إن في التأرجح بين النصر والهزيمة مقدمات واضحة لدعوات سياسية متباينة، ولتوازنات مرغوبة. اللافت في هذا المجال أمران. الأول هو أن الأكثرية الحالية عندما كانت تخوض معاركها لم تكن تقيم حساباً جدياً للربح والخسارة وكانت تغلّب «السياسي» على «الاقتصادي». الثاني هو أن هناك، ضمن هذه الأكثرية، من دعا نصر الله إلى إهداء «الانتصار» إلى الدولة واللبنانيين، فلما حاول الرجل ذلك فضّل بعض «الآذاريين» أن يهدوا أنفسهم هزيمة أولمرت بعد تعليبها بصفتها انتصاراً.

■ أداة: إنهم «أداة». هذه تهمة في اتجاه واحد. إنها ماركة مسجلة. وعندما يغضب فريق «14 آذار» من أن أحداً يطلق عليه «فريق 14 شباط» فإنه لا ينتبه إلى محاولته تكريس اسم آخر لـ«حزب الله»: أداة المحور الإيراني ــ السوري. رد التهمة ممنوع إذاً. والممنوع، أكثر، هو استعراض الوقائع الدامغة التي تؤكد أن خطاباً معيناً وسلوكاً معيناً وأداءً معيناً، أن هذه كلها، تعرّف أصحابها بأنهم «أداة» في المحور الآخر الممتد من طوني بلير حتى عمير بيرتس. لم يعد ناقصاً إلاّ القول بأن المقاومة هي في خدمة إيران وسوريا فيما الولايات المتحدة، وإسرائيل، وغيرهما، في خدمة «14 آذار». يمكن القول، من باب المساجلة، إن «حزب الله» أداة ناجحة في يد المحور الذي يحالفه علناً وينتمي إليه، أما «14 آذار» فأداة فاشلة. إن التدخل الإسرائيلي المباشر في لبنان إعلان فشل الأداة الداخلية تماماً كما أن نشاطية هذه الأداة الداخلية راهناً إعلان فشل للعدوان الإسرائيلي الذي هو، بدوره، بيدق في الحرب الأميركية العامة على المنطقة وأهلها. والطريف أن الجهة التي جعلت من تهمة «الأداة» برنامجاً سياسياً كاملاً هي الجهة التي تزعم أنها تريد إلقاء مسحة أخلاقية على الحياة العامة في لبنان، تقوم أول ما تقوم، على رفض «التخوين». ويتذاكى البعض فيعتبر أن اتهامه بأنه «أداة» هو دعوة إلى إباحة دمه متناسياً أن التوصيفات التي يوزعها على الآخرين برّرت حرباً لا اغتيالاً فحسب.

■ الثلث المعطل: المطالبة بالثلث المعطل جريمة. إنه في الواقع حق وهو في صلب العملية الديموقراطية. يمكن رفض ذلك طبعاً ولكن لا داعي لتجريم الإصرار عليه. إن المشكلة في الرغبة بامتلاك أكثرية الثلثين هي أكبر من الاهتمام بالحصول على الثلث. والتذرع بمنطق الأغلبية النيابية لا يفيد كثيراً هنا لأنه يفترض به أن يقود إلى حكومة متجانسة. فليبرهن رافض الثلث المعطل عن قدرته على ممارسة السلطة منفرداً.