جوزف سماحة
ديفيد ولش، مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، يعرفه اللبنانيون جيداً. وهو، أيضاً، يعرفهم. يعرف حُسن استضافة بعضهم للزوار الأجانب، وخاصة إذا كانوا مبعوثي الإدارة الأميركية. ويعرف، خاصة، أن يتذوّق «المطبخ اللبناني» في حضرة وزراء ومسؤولين وقادة سياسيين طاب لهم، مرات، تقاسم الخبز والملح معه على إيقاع أصوات القذائف الإسرائيلية ــ الأميركية فوق رؤوس مواطنيهم.
ليس ديفيد ولش أسوأ مَن في الإدارة الحالية. يمكنه أن يبدو قومياً عربياً متطرفاً في حضرة إليوت أبرامز مثلاً. ولقد نُشر، في الولايات المتحدة، أن كوندوليزا رايس عندما تريد أن تجري حواراً افتراضياً بين العرب وإسرائيل يتولى ولش تمثيل الجانب العربي وأبرامز الجانب الإسرائيلي. ومن المقدر أن الثاني يفعل ذلك بصعوبة نسبية لأن إسرائيل التي يريدها، أكثر حضرية من إسرائيل الراهنة!
مثل ولش، مع غيره، أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي أول من أمس لعرض سياسة بلاده حيال لبنان بعد «النزاع» الأخير مع إسرائيل. ماذا قال؟
بدأ ولش، طبعاً، بتأكيد الطبيعة الإرهابية لـ«حزب الله»، واصفاً إياه بأنه «قوة عدم استقرار في المنطقة» مرتبط بإيران وسوريا. رأى أن «الحزب» دولة ضمن الدولة وأكد أن واشنطن، في سعيها إلى وقف العمليات، وضعت نصب عينيها هدفاً مركزياً: عدم العودة إلى الستاتو ــ كيو السابق، أي عدم العودة إلى ما قبل 12 تموز. كان القصد تطوير ما هو وارد في القرارين 1959 و1860. وهكذا ولد القرار 1701 الذي يتضمن قواعد يمكن، إذا أُحسن تطبيقها، عدم العودة إلى الماضي.
استعرض ولش انتشار الجيش اللبناني والقوة الدولية (مع دور بحري غير مسبوق) وركز على ضرورة الدعم الاقتصادي للبنان، ودعم أجهزة الأمن والجيش، وضمان الحدود البرية، وتأمين بسط الدولة اللبنانية سلطتها عبر نزع سلاح «حزب الله».
وكانت لولش هذه الجملة المعبّرة: «ثمة تقدم حصل لكن الكثير يبقى أمامنا لنفعله. إن التحدي أمامنا الآن هو الاحتفاظ بالزخم الذي يقود نحو سلام دائم في لبنان والتصدي لجهود حزب الله وسوريا وإيران لتصوير النزاع كأنه انتصار لحزب الله». أضاف: «نحتاج إلى التحرك سريعاً».
استند المسؤول الأميركي إلى ما تقدم ليعتبر أن وقف النزاع يفتح نافذة فرص خارج الحدود اللبنانية، لأن الشرق الأوسط على مفترق طرق والأمن الوطني الأميركي شديد التأثر بما يجري. يعيش الشرق الأوسط، في رأيه، صراعاً بين الديموقراطية وخصومها، ولذا «يجب على الولايات المتحدة الاستمرار في هجومها على الراديكاليين والمتطرفين الذين يستغلون النزاعات لتهديد النظام الليبرالي وغير العنيف». أما النزاعات، في العراق وفلسطين، فيمر عليها مروراً عابراً ليطالب بالتطوير الاقتصادي والسياسي وبدعم الحكومات المعتدلة المنتخبة (بمعنى أنه لا دعم لحكومة منتخبة إذا كانت غير معتدلة).
هذه هي معالم الخطة الأميركية حيال لبنان وذلك على لسان أحد معتدلي هذه الإدارة. يخيّل لمَن يقرأ ولش أنه يقرأ البيان الأخير لقوى «14 آذار». وسيكون الرجل مفاجأً جداً إذا قيل له إن أركان هذا الفريق يصرفون جهداً في النأي بأنفسهم عن السياسة الأميركية.
يقفز ولش برشاقة عن التدمير الإسرائيلي للبنان مع أنه يستفيض في استعراض ما يجب إعماره، ويتجاهل الخروق الإسرائيلية للسيادة اللبنانية منذ سنوات، ولا يأتي على فقرات بكاملها في القرار 1701.
يحدد الهدف المركزي للسياسة الأميركية حيال لبنان بأنه يقوم على منع العودة إلى ما قبل 12 تموز، وذلك في نقطة أساسية متصلة بـ«حزب الله» وسلاحه. وتشاء الصدف أن يكون الهدف نفسه هو الهدف المعلن لقوى لبنانية داخلية. ويحدد ولش أيضاً أدوات تنفيذ هذه السياسة: دعم الحكومة للتخلص من «الدولة داخل الدولة»، القوة الدولية، استمالة الأجهزة الأمنية اللبنانية، المساعدات الاقتصادية، ضبط الحدود البرية. وهو ليس مضطراً إلى القول بأن واشنطن تملك حاملاً شعبياً لبنانياً لهذه التوجهات، ولا إلى التشديد على التلاقي بين التعريف الأميركي للمصالح الوطنية والتعريف الإسرائيلي لموجبات الاندفاعة التوسعية.
يجب، ربما، أن نضيف ملاحظتين إلى ما تقدم:
الأولى، يتحدث ولش بوضوح ما بعده وضوح عن «استمرار الهجوم الأميركي». وسيكون على دُعاة التحذير من سياسة المحاور قراءة هذه العبارة بدقة لأن المسؤول الأميركي ينظر إلى لبنان كساحة يجب استغلال النجاح الأميركي ــ الإسرائيلي فيها للمضي في تنفيذ جدول أعمال يعيد تحديد مشكلات المنطقة وفق منظور تل أبيب وواشنطن. إن القوى «السيادية» اللبنانية هي، بهذا المعنى، وشاءت أو أبت، قوى إقليمية شديدة التمحور. ليس صحيحاً أنها تقاتل من أجل تحييد لبنان، إنها «أداة» لنقل لبنان من ضفة إلى ضفة.
الملاحظة الثانية تتعلق بـ «التصدي لجهود حزب الله وإيران وسوريا لتصوير النزاع كأنه انتصار لحزب الله». هذه المهمة إعلامية أولاً. لقد صدر أمر العمليات بتنفيذها والجهد قائم لذلك. إن مَن يقرأ ويشاهد ويستمع يلاحظ ذلك. «القائمة السوداء» طويلة. لكن المهمة سياسية ثانياً. فالمطلوب البناء على هذا «الانطباع الإعلامي» من أجل تسهيل مرور شعار «لا عودة إلى ما قبل 12 تموز». واللافت، هنا، تبرّع لبنانيين كثيرين بتكرار دور أحمد الجلبي في العراق لناحية إطلاق التقديرات الخاطئة عن الوضع الشعبي للمقاومة ونفخ شخصيات ومواقع من أجل الإيهام بأن «العمل خلف خطوط العدو» ناجح.
أحد الذين استدعوا للإدلاء بشهادتهم أمام لجنة مجلس الشيوخ هو أوغسطوس ريتشارد بورتون أستاذ العلاقات الدولية وعالِم الانتروبولوجيا العامل على دراسة أوضاع الشيعة في لبنان. قال إن «حزب الله» خرج أقوى. يبدو أنه لا يقيم اعتباراً لأهواء «البريستوليين» وخلطهم بين الواقع والأمنيات. ربما بات عليهم الاكتفاء بولش. لقد حدد لهم الوجهة، عسى، هذه المرة، ألاّ يفشلوا.