جوزف سماحة
ألقى البابا بنديكتوس السادس عشر في ألمانيا محاضرة كان يمكن، ويجب، تفاديها. جاءت تصبّ الزيت على نار مشتعلة أصلاً. لا يشفع له أنه كان ينقل كلاماً عن كتاب يعود إلى قرون. المهم أنه لم يأخذ المسافة اللازمة ممّا يقرأ. والمهم أنه فعل ما فعله في هذا الوقت. يمكنه كشخص، وحتى كلاهوتي، أن يملك الأفكار التي يريد، إلاّ أنه في موقع آخر يفرض عليه واجبات أخرى.
إن مَن يراقب المشهد العالمي المعولم لا يفوته تقدم الانقسامات الإثنية والطائفية والمذهبية. هذه ظاهرة سجّلها الكثيرون وعدّوها الوجه الآخر لعولمة تدّعي أنها توحّد الكون اقتصادياً وتجارياً قبل أن يتضح، تماماً، أنها تفتح الأبواب على عولمة عسكرية بالاتجاهين. يبرز تدريجاً، في هذا المشهد، خط انقسام واضح يدلّ على تعمّق الهوّة بين العالمين الإسلامي والغربي. لا يلغي ذلك التباينات والصراعات داخل كل منهما، ولكنه يقدم، لمَن يريد الاستسهال، منظومة يمكن من خلالها عقل العالم والتدخل في مجرياته. كان «صدام الحضارات» مزيجاً من تقدير ونبوءة. يجب الاعتراف بعد سنوات على صدور كتاب صموئيل هنتنغتون بأن السجال معه يزداد صعوبة.
يتحمل الرئيس الأميركي جورج بوش مسؤولية حاسمة في دفع الأمور نحو هذا المنحى. لا أهمية، في هذا المجال، لما ذكره ذات مرة عن «الحملات الصليبية»، لأن مسؤوليته في غير مكان. لقد اندفع نحو سياسة تغييرية نيوكولونيالية ضد عدو هلامي اسمه «الإرهاب». ونزع عن هذا العدو كل تاريخيته، ودوافعه، وأسبابه، ليجعل منه مجرد «انحراف فكري»، مجرد «مرض أيديولوجي» أطلق عليه تسميات مختلفة يبقى أقربها إلى ذهنه «الإسلام الفاشي» المعبر عنه في عدد من خطابات أُسامة بن لادن. لم يتردد في تشبيهه بوارث النازية والشيوعية عاقداً مقارنات كان يمكنها أن تكون مضحكة لولا أنها كارثية في نتائجها. تجاهل بوش الأزمات كلها التي يعيشها العالمان العربي والإسلامي، ونسب إليهما أطماعاً توسعية اقتحامية، واندفع في دعم العدوانية الإسرائيلية، واحتل العراق متجاهلاً أنه يفتح بوابة الحرب الأهلية، ورعى تدمير لبنان، وواصل تهديداته لإيران وبرنامجها النووي (تسامح مع الهند النووية بشكل يجعل معاهدة الحد من الانتشار النووي حطاماً)... باختصار وفّر بوش، الرئيس المؤمن، المولود ثانية، المستوحي إلهامه من علٍ، وفّر الأسباب كلها، في ظل تراجع أيديولوجيات القرن الماضي، من أجل إرغام المواطن العادي في بلادنا على استعارة اللغة الأقرب إليه لتحصين نفسه بعقائد وأفكار تصدّ عنه الهجوم.
إن مَن يستمع إلى بوش جيداً يلاحظ كم أنه يعيد المواجهات الحالية إلى «جوهر ثقافي» (برغم محاولاته، غير المقنعة، إنكار ذلك). إن الحرب التي ستمتد لأجيال هي، في رأيه، «حرب أفكار» تسير بموازاة «حرب الأسلحة». ولا تزال شعوب تبحث، في عنف الأسلحة الذي تتلقاه، عن إبرة الأفكار الموعودة.
عندما يحاول رئيس الوزراء البريطاني تمييز نفسه فإنه يفعل ذلك فوق الأرضية نفسها. ففي المحاضرة التي ألقاها أثناء زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة أكد أنه «لا يمكن الانتصار في هذه المعركة ضد التطرف، إلاّ إذا انتصرنا على مستويي القيم والقوة على حد سواء». ودافع عن النهج الأميركي بعد 11 أيلول لأنه نهج لا يرمي إلى «تغيير الأنظمة، بل تغيير القيم التي تتحكم بالأمم المعنية». حاول بلير أن يكون أكثر تعقيداً من بوش، وهذا أمر سهل، إلاّ أنه بقي في نطاق المقاربة نفسها: نحن، أي «الغرب»، أمام أمم تتحكّم بها قيم يجب تغييرها!
كان الوضع سيكون أفضل قليلاً لولا تدخل الحبر الأعظم. فالعالم ما زال يتذكر (؟) أن الفاتيكان الذي رفض الحرب الأميركية ــ البريطانية على العراق لعب دوراً، مهما كان محدوداً، في كسر صورة المواجهة بين عالمين وديانتين. وكذلك فعلت الكنائس الرسمية في الولايات المتحدة وبريطانيا، في حين أن الأصوليين المسيحيين الأميركيين كانوا من أشدّ قارعي طبول الحرب حماسة.
لقد كان واضحاً عندما خلف بنديكتوس السادس عشر يوحنا بولس الثاني أن الفاتيكان سيشهد ردة. لا يعني ذلك أن الثاني كان شديد التنوّر، ولكنه يعني أن الأول أثبت خلال الممارسة السابقة أنه شديد الانغلاق.
ثمة قاسم مشترك بين جورج بوش وبنديكتوس السادس عشر: الكراهية المصحوبة بالازدراء لثقافة الستينيات أو لما يعرف بالثقافة المضادة. يكره الرجلان تلك المرحلة، وأفكارها، وتحررها، وتفلّتها، وفوضويتها، وأنانياتها، وتمردها، وكسرها للتقليد والقوالب. وتعبر هذه الكراهية، بشكل من الأشكال، عن رفض لصيغة من صيغ «الأنوار» مزيدة منقّحة.
كان القلق واجباً من أن يصب الرافدان (الرئيس والبابا) في مجرى واحد، وأن يعبّر الاثنان، إلى هذا الحد، عن صدورهما من قعر مشترك. ويمكن التساؤل، اليوم، إذا كان ذلك قد حصل.
إذا كان هذا هو الوضع فعلاً فإن أياماً عصيبة تنتظرنا.
كان البابا السابق راية من رايات الحرب الكونية على الشيوعية والمعسكر الاشتراكي. كان الشخص المناسب لما أقدم عليه رونالد ريغان من تسعير لـ«الحرب الباردة». نحن، اليوم، أمام معطى جديد. فالحرب الكونية، في عرف بوش، هي حرب على «الإسلام الفاشي» وليس بسيطاً أن يوفّر له الفاتيكان «التغطية الثقافية والأخلاقية» التي يحتاج إليها.
ربما كان علينا، في لبنان، أن نتنبّه إلى عنف الموجة التي قد تضربنا إذا تلاقى الرافدان. لقد كنا، في المدة الأخيرة، نحاول صدّ آثار العدوانية البوشية بأطروحات المجمع الخاص بلبنان وبدعوات التعايش التي أطلقها وبالإرشاد الرسولي إلى المسيحيين. طبعاً ثمة نقاش في فاعلية ذلك، إلاّ أنه كان، برغم كل شيء، مفيداً. هل تتعطل هذه المحاولة مستقبلاً؟
هل تتحمل حساسية التركيبة اللبنانية الخاصة مثل هذا التعطيل؟ ألن يكون مدعاةً للحذر احتمال تكرار أحداث شباط المتعلقة بالاحتجاج على الرسوم الدنمركية؟ ماذا نفعل بتهديدات تطاول الأجانب في لبنان؟
لقد شاءت الصدف أن تتزامن محاضرة البابا في ألمانيا مع تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن مهمة «القوة البحرية». قالت إن ألمانيا قادمة إلى لبنان لحماية إسرائيل فحسب. إلاّ أن المحاضرة حملت رأياً في معتقدات مَن يمكنهم التصدي لإسرائيل ومقاومتها، وهو رأي سلبي ومهين. فإذا جمعنا المهمة إلى الرأي، إذا جمعنا الموقف السياسي إلى الموقف الروحي، بتنا أمام مشهد استفزازي تماماً.
ثمة مخاوف مشروعة من أن ينتدب بنديكتوس السادس عشر نفسه ليكون بابا الحرب الكونية على «الإرهاب» التي أعلنها جورج بوش.