جوزف سماحة
تألّفت، أخيراً، في إسرائيل لجنة التحقيق الرسمية في مجريات الحرب. لم يكن ذلك ليحصل لو أن انتصاراً تحقّق وكان في مرتبة الانتصار الذي ينسبه بعض اللبنانيين إلى الدولة العبرية. ليست اللجنة لجنة دولة كما طالب سياسيون ومتظاهرون وجنود وضباط احتياط. إنها لجنة رسمية ولو بصلاحيات موسّعة تسمح لها بتوفير حصانة للشهود واستجواب سياسيين وقادة ميدانيين.
لن يقفل الإعلان عن اللجنة باب النقاش. سيبقى هناك مَن يطالب بأكثر ومَن يشكّك في أن إيهود أولمرت يحاول التهرّب، أو في أنّ «المشتبه فيهم» عقدوا صفقات تنأى بهم عن المساءلة. يريد الجمهور الإسرائيلي أن يرى دماً، أن يشاهد رؤوساً تتدحرج غير رأس قائد الجبهة الشمالية أودي آدم. لا يبدو أن الجمهور سيرتوي بعشرات اللجان الفرعية التي ستتولّى التنقيب في أوجه الحرب كلّها من أجل اكتشاف الثغر. إسرائيل دولة عدوّة لكنها دولة تحترم نفسها وترى أنّ أبسط الواجبات التدليل على مكامن الخلل والمحاسبة بناءً على ذلك.
أين نحن، في لبنان، من إسرائيل؟
لدينا، هنا، قضية عالقة: حادثة الثكنة في مرجعيون. ثمّة تواطؤ ضمني على محاولة نسيانها إلاّ أنها تقضّ المضاجع.
صرّح وزير الداخلية بالوكالة أحمد فتفت في آخر كلام له عن الموضوع (الزميلة «الشراع»، العدد الأخير) بما حرفيته «المشكلة أصبحت أمام مجلس النواب والملفّ بيد المجلس النيابي. ولهذه المشكلة جزآن. في الجزء الذي يخصّ العميد داود حصل تحقيق والمفتش ارتأى أن نكتفي بالعقوبة وهي توقيف ثلاثة أيام. وفي الجزء الثاني، وهو الجزء السياسي، الملفّ بكامله في عهدة لجنة الأمن في مجلس النواب، وأنا قلت أمامها إني أتمنّى توضيح الأمور إلى أقصى درجة ولا مانع لدي من أن أذهب إلى لجنة تحقيق برلمانية، بل كنت أتمنى أن أذهب إلى لجنة تحقيق برلمانية حتى تتوضّح الأمور ولا تبقى أمور للاستعمال اليومي الإعلامي وغير الإعلامي». كلام جميل. «أجمل» منه أن شيئاً لن يحصل جدياً.
لا بد من عودة إلى ما يذكره الوزير عن التحقيق الذي حصل. لقد أجراه المفتش العام لقوى الأمن الداخلي العميد سيمون عواد. ومَن يقرأه بعناية، بعد أن يكون قد قرأ تقرير العميد عدنان داود (نشرته «الأخبار» في 1 أيلول) يلاحظ تطابقاً كاملاً بين الروايتين وتبريراً لما أقدم عليه قائد القوة الأمنية في الثكنة. أما الشهود الذين استُدعوا فلم يضيفوا جديداً ومَن تمايز عن الرواية المعتمدة عاد فأفاد بـ«أن ذلك كان خطأ من قبله».
نقتطف من التحقيق الفقرتين التاليتين «كما كان جلياً أن العميد عدنان داود قائد القوة الأمنية المشتركة في الجنوب لم يغب عنها طيلة فترة العدوان الإسرائيلي ولم ينقطع الاتصال ما بينه وبين الرؤساء وقد قامت هذه القوة بأعمال الإغاثة وتقديم المساعدات للمواطنين ونقل الجرحى والمصابين حيث غابت جميع المؤسسات المدنية والإنسانية عن تلك المنطقة بسبب الأعمال العسكرية المتواصلة دون انقطاع. أما خلال الـ24 ساعة التي احتلّت فيها قوات جيش العدو الإسرائيلي الثكنة فقد كانت مليئة بالأحداث الأليمة، واجتازها العميد داود بحكمة ورويّة...». يضيف التحقيق «أمّا مبنى الثكنة المستقرة فيها قيادة هذه القوة فهو مبنى هزيل وقديم العهد ولا يحتمل أية قذائف وغير مجهّز بأي ملجأ... إن الدفاع عن الثكنة بهكذا أسلحة ومبنى وتجهيزات هو ضرب غير محمودة عواقبه بحق العسكريين الموجودين».
ويختم التحقيق بأن عقوبة الثلاثة أيام قد تكون ظالمة إلاّ أنها نتيجة «ما ظهر على شاشات التلفزة ورغم كونه اختير من فيلم أنتجه العدو الإسرائيلي بنيّة واضحة تخدمه». نقطة على السطر.
الخلاصة أن العميد داود يستحقّ التهنئة على «الحكمة والرويّة»، وأن أوضاع القوة الأمنية مزرية إلى حدّ يلغي، من الأساس، احتمال التصدّي. يقال ذلك في وقت يتبارى فيه الوزير فتفت مع أصدقائه السياسيين في إلقاء المحاضرات عن «سقوط نظرية الردع» و«بطلان ميزان الرعب» (يستحقّ أحد نواب طرابلس لقب «كلاوزفتز تيار المستقبل» على أطروحاته في هذا المجال).
نستنتج ممّا تقدّم أن هناك قضية عالقة، وأن هناك تحقيقاً حصل، وأن الموضوع، برمّته، مُحال على لجنة نيابية. ونتساءل، بناءً على ذلك، إذا كانت اللجنة ستجتمع فعلاً، أم أن النصاب سيطير في كل مرة، وإذا كانت أمنية الوزير فتفت بالمثول أمام لجنة تحقيق برلمانية ستحقّق؟
نعود، الآن، إلى إسرائيل. إن أحد أبرز التبريرات الذي أعطاه إيهود أولمرت لإطلاق التحقيق هو «أمله في أن يساعد ذلك البلاد كي تستعدّ للتحدّيات القادمة». هذا هو جوهر الموضوع. ليست الغاية من هذا العمل الثأر، أو التشفّي، أو نبش الماضي، أو تصفية الحسابات. إن الغاية هي تعريض ما حصل لدراسة معمّقة، واستخلاص الدروس، والبناء عليها من أجل المستقبل. ويمكن القول إنهم، في إسرائيل، يعدّون لأن تكون الحرب المقبلة قائمة على الخلاصات التي يتوصّلون إليها من تجربة الحرب الأخيرة.
من هنا فإن الإصرار على إعطاء «حادثة الثكنة» أهمّيتها لا ينبع من حزازات سياسية. نحن أحوج ما نكون إلى ذلك. لماذا؟
لأنّ القوى الأمنية اللبنانية تنتشر عند الشريط الحدودي وباتت وجهاً لوجه مع الجيش الإسرائيلي. ولأن الاختراقات مستمرّة ويمكن أن تتصاعد وتأخذ أشكالاً أكثر عدوانية. نحتاج في لبنان إلى رسم خطّ بين الجائز والممنوع، إلى إيصال رسالة عمّا يجب فعله وما لا يجب. ليست هذه مهمّة القيادة العسكرية وحدها. إنها مهمة سياسية بالدرجة الأولى. وإذا اكتفينا بهذا القدر من التعاطي مع «حادثة مرجعيون» فإننا نوجد سابقة تلغي ضرورة الدفاع عن السيادة، ونقدّم تبريرات لأي خرق لاحق لواجبات القوات العسكرية.
نضيف إلى ذلك أن الذين يمجّدون أنفسهم بأنهم أبطال «المقاومة السياسية» عليهم الانتباه إلى أن الشعار عفا عليه الزمن مع مباشرة تطبيق القرار 1701. إنه شعار كان يمكنه أن يكون نافعاً (هذا إذا كان صحيحاً) قبل انتشار الجيش في الجنوب. لا مكان له في الشرط الراهن ولا يكفي سنداً للمطالبة بحصرية السلاح وقرار السلم والحرب. والخوف، كل الخوف، من أن يكون هناك مَن هو مقتنع بأنّ الوجه الآخر لـ«المقاومة السياسية» هو، بالضبط، السلوك الذي اتُّبع في مرجعيون وانتهى بقصف إسرائيلي على القافلة.
يجب تذكير الأكثرية الحكومية بأن التحقيقات، في إسرائيل، ستتناول عمليات الإغاثة أيضاً. هذه مناسبة، عندنا، لوضع المعطيات كلّها في تصرّف المواطنين الذين تساورهم شكوك كثيرة. كما أن التحقيقات، هناك، ستطاول الإدارة السياسية للحرب. لذا يُستحسن، هنا، الكشف عن محاضر الاجتماعات مع الموفدين الأجانب والعرب على أن يترك للّبنانيين تقويم الأداء وتمييز الصحّ من الخطأ.