نقولا ناصيف
ما بين الأجهزة الأمنية وقادتها يكاد يكون أسوأ مما بين السياسيين، ولا سيما منهم الغالبية الحاكمة والفريق الآخر. وباتت وقائع ما حصل في الأيام الأخيرة بين وزير الداخلية والأمن العام ونتائج التسوية التي انتهى بها، خير معبّر عن واقع الانقسام الذي طاول الأجهزة الأمنية نفسها، بعضها حيال البعض الآخر. وهو ما يُنتظر أن يكشفه الاجتماع المزمع عقده اليوم في السرايا برئاسة رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، ويحضره وزير الدفاع ووزير الداخلية بالوكالة وقادة الأجهزة الأمنية.
واستناداً الى ما أعدّه هؤلاء في الساعات الأخيرة، فإنهم يحملون الى الاجتماع ملفات ووثائق وبيانات طلبات ودراسات قانونية وأمنية يشهرها واحدهم في وجه الآخر دفاعاً عن وجهة نظره حيال قرار الوزير أحمد فتفت رقم 2403، عن الربط الإلكتروني للمعلومات بين هذه الأجهزة. بين هؤلاء مَن يحمل موقفاً مفاده رفض الربط الإلكتروني والدخول الى معلومات جهازه، ومَن يحمل نماذج عن طلبات حصول على معلومات من جهاز آخر جاءت المعلومات عنها متضاربة الى حدّ التناقض، وبيانات أخرى طلبت معلومات تحت عنوان «عاجل جداً» فإذا بالردود تأتي بعد 48 ساعة على الأقل أي بعد أن تفقد هذه الطلبات طابع الإلحاح الأمني...
ومع أن المشكلة الصغيرة التي تفرّعت عن القرار 2403 بين فتفت واللواء وفيق جزيني سُوّيت ظاهراً، فإن المشكلة الأم لا تزال عالقة نتيجة تضارب المواقف والتنازع بين الأجهزة المعنية، إما محافظة على الصلاحيات أو جعل المعلومات في متناول أكثر من جهاز. وفي كل حال تبدو علاقة الأجهزة، بعضها ببعض، مثيرة للجدل ويطبعها عدم الثقة والشكوك المتبادلة، الى حدّ أن الفريق المفاوض للغالبية الحاكمة طرح على الرئيس نبيه بري الموافقة على إقالة جزيني وترك الحرية له أن يسمي مَن يشاء مديراً عاماً للأمن العام، فرفض. كذلك الأمر بالنسبة الى عدم اطلاع فتفت في الساعات التي سبقت التسوية بين بري والسنيورة على مضمونها، فكاد الأمر ينسف التسوية برمتها. قبل ساعات من زيارة جزيني لوزير الداخلية، الأربعاء، تلقى مكالمة من بري حضّه فيها على الاجتماع بفتفت والتفاهم معه بمرونة وإيجابية من غير اقتران ذلك بأي اعتذار. وسرعان ما تلقى جزيني مكالمة هاتفية من رئيس الحكومة طلب منه، خلافاً للاتفاق مع بري، الذهاب الى الوزير والاعتذار منه ثم التوجّه الى بيته وملازمته تكريساً للتدابير المسلكية التي اتخذها في حقه وزير الداخلية. نقل جزيني فحوى المقابلة الى رئيس المجلس فغضب للإخلال بالاتفاق وقطع الاتصالات عنه، وهدّد وتوعّد الى أن وُضِعت التسوية على سكّتها السابقة.
والواقع أن في صلب فقدان عامل الثقة، السياسي والأمني على السواء، تراكم مؤشرات عدة بينها:
- مشروع إلغاء المديرية العامة لأمن الدولة، وهي المؤسسة المعنية قانوناً بالأمن القومي. وإن يكن قد تردّد أخيراً أن هذا المشروع صُرِف النظر عنه.
- اقتراح نيابي كان قد جرى تداوله قبل أشهر يقضي بحصر مهمة مديرية المخابرات في الجيش بالأمن العسكري، ما لبثت جهود وزير الدفاع الياس المر أن طوّقت هذه الخطوة انطلاقاً من قاعدة أن انتشار الجيش على الأراضي اللبنانية يخوّله المحافظة على أمنه وعلى الأمن العام في البلاد الذي هو في آخر المطاف الأمن القومي.
- تجاوز الدور الذي يضطلع به مجلس الأمن المركزي الذي ينيط به قانون تنظيم المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي رقم 17 تاريخ 6 أيلول 1990 تنسيق تبادل المعلومات بين الأجهزة الأمنية، بحيث يمسي هو مصفاة هذه المعلومات. وترافق ذلك مع ما كان قد طُرِح قبل أشهر أيضاً، وعلى أثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وسلسلة الجرائم والتفجيرات التي تلته، إنشاء «غرفة عسكرية» تجمع رؤساء الأجهزة الأمنية لتبادل المعلومات. وبدت هذه المحاولة، في تقدير أكثر من جهاز أمني، محاولة لوضع اليد على المعلومات السرية لديه.
مغزى ذلك كله يؤول الى المعطيات الآتية:
1 - تقويم متباين للدور الذي اضطلع به بري في الأزمة الأخيرة، وبدا أن ثمة مَن تعمّد استفزازه سياسياً من خلال مشكلة إدارية، وخصوصاً لجهة التعرّض لجهاز أمني رئيسه شيعي اتفق بري و«حزب الله» على تعيينه بعد تجاذب طويل مع فريق الغالبية الحاكمة. ورغم أن النائب علي حسن خليل أبلغ الأربعاء المنصرم الى مسؤول أمني كبير أن بري لا يرفض الربط الإلكتروني للمعلومات شرط أن يصير الى الاتفاق عليه بين قادة الأجهزة الأمنية تبعاً لاقتراحات تعاونهم، فإن بعض مَن عملوا على «استفزاز» رئيس المجلس أدرجوا دوره في إطار تصفية حساب سياسي على علاقة بالحكومة وحملة أركانها على «حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصر الله. وفي نهاية الأمر سلّم المعنيون بالتسوية التي قال بها بري.
2 - يذهب كل من قادة الأجهزة الأمنية الى اجتماع السرايا على طريقته:
- يذهب جزيني وفي ذهنه الإصرار على رفض مطلق للربط الإلكتروني، مفضّلاً إطار التنسيق بين الأجهزة بحيث لا يُخضِع أي معلومات يطلبها منه جهاز آخر في نطاق ملف معيّن لمصلحة الأمن العام، رافضاً بذلك أي توسّع في الدخول الى المعلومات السرية للأمن العام. تبعاً لذلك يبدو أقرب الى توقّع إلغاء القرار 2403، وفي أبسط الأحوال يُستعاض عنه بصيغة مقبولة وأكثر مرونة لا تتعدى نطاق التنسيق المتبادل والمشترك.
- ويذهب المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي - الذي لا يترأس في أي حال جهازاً أمنياً وإنما يشكّل مرجعية فرع المعلومات المحوط باللغط السياسي والأمني - وفي ذهنه العمل على تصويب ما يعتقده خطأ تقنياً في صوغ القرار 2403 أساء الى اقتراح الربط الإلكتروني للمعلومات، وذلك بتصويب يقضي بأن يكون الربط بين المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي - لا فرع المعلومات - وسائر الأجهزة نظراً الى الدور الواسع النطاق للمديرية وعلاقتها بالأنتربول الدولي وامتلاكها هي أيضاً كمّية كبيرة من المعلومات تضعها في تصرّف الأجهزة الأمنية الأخرى. ويقف ريفي على طرف نقيض من المطالبين بإلغاء القرار إذ يعتبره بعد تصحيحه حاجة ماسة في إطار وضع آلية تمهّد من خلال تبادل المعلومات لمواجهة جرائم الاغتيال والتفجيرات.
- ويذهب رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي المقدّم وسام الحسن وفي ذهنه الإصرار على الربط وتوسيع نطاقه كي يشمل كل الأجهزة الأمنية لا تلك ذات الصلة الإدارية بوزارة الداخلية، في إشارة الى ضرورة أن يشمل التعاون والتنسيق أيضاً مديرية المخابرات في الجيش. وهو بذلك يقول بربط يشمل كل الأجهزة الأمنية، ولكن كل في نطاق ما يحتاج إليه من معلومات.
3 - التفسير المتعارض للقرار 2403 بين رؤساء الأجهزة، بحيث بدا كل من هؤلاء بتسلّح بتفسيره له. ففيما يرى الأمن العام أن المقصود بالقرار خطوة أولى تمهّد للسطو على صلاحيات هذا الجهاز وصولاً للدخول الى المعلومات السرّية وشبكات المخبرين، يعتقد فرع المعلومات - وهو الطرف الآخر غير المباشر في النزاع العلني - أن المقصود هو الوصول الى المعلومات الرسمية أو ما يسمّيها «الداتا الميتة» التي تتضمن في نطاق دوائر وزارة الداخلية اللاجئين الفلسطينين والأحوال الشخصية، وفي نطاق الأمن العام جوازات السفر وحركة الدخول والخروج ونزلاء الفنادق. على أن ما يعكس التناقض في تفسير القرار 2403 و«سوء النية» المتبادل في مقاربة كل من الأجهزة بعضها لبعض، أن كلاً منها يتمسّك سلفاً بما ينيطه به القانون ولا يتراجع عنه. وهو بحسب مسؤول أمني كبير أرشيف الأمن القومي المتوافر لدى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والمديرية العامة للأمن العام ومديرية المخابرات في الجيش والمديرية العامة لأمن الدولة.
4 - يبيّن حجم الخلاف على أدوار الأجهزة الأمنية حجم الصراع السياسي والتسابق في السيطرة عليها، وفي أحسن الأحوال اعتبار كل جزء أشبه بمظلة أمنية لهذه القوة السياسية أو تلك، أو لهذه الطائفة أو تلك. وتالياً فإن تدخّل رئيس مجلس النواب في الأزمة الأخيرة بين فتفت وجزيني لم يكتفِ بتأمين مظلته على هذا الجهاز فحسب، بل أيضاً جعل الأجهزة الأمنية جزءاً من التوازن السياسي القائم.
في ظلّ ذلك كله، يبدو اجتماع السرايا اليوم محكّاً فعلياً لحجم التأثير السياسي في إدارة الأجهزة الأمنية.