جوزف سماحه
تصدر «الأخبار» في توقيت نراه صائباً. لنقل، بالأحرى، إنه أقرب إلى الصواب في زمن يتميّز بوفرة «الحسابات الخاطئة».
إنّ لبنان في مرحلة مفصلية، وكذلك منطقتنا. ويمكن قول الأمر نفسه عن العدوان المتمادي الذي نتعرض له. لقد دخلنا هذه المرحلة المفصلية لأن هناك من أجرى «حسابات خاطئة».
لقد كدنا نعتاد أن هذه التهمة توجّه إلى من يقاوم ظلماً، أو يتمرّد عليه، أو يرفضه بعنف. وغالباً ما تتضمن هذه التهمة سنداً يوحي أن الحسابات خاطئة بغضّ النظر عن التوقيت. ففي عرف الاستبداد، الرفض هو خطأ أو نزق أو مغامرة. وفي عرف الواقعية المبتذلة لا مجال لوقت تتعرّض فيه للمساءلة.
مرّ زمن أخرج خلاله التعسف والعدوان من دائرة الاتهام بإجراء «حسابات خاطئة». إلا أن الفترة الأخيرة توفّر أدلة لا تحصى على أن التهمة انتقلت من جهة إلى أخرى. لم يعد سرّاً اليوم، بعد أسابيع على الهمجية الإسرائيلية، من هو الطرف الذي خالف الدقة.
الذين رفعوا شعار «الحسابات الخاطئة» في لبنان وخارحه لم ينتبهوا كفاية إلى أمر بسيط. لم تكن عملية 12 تموز، في حدّ ذاتها، مبنيّة على «حسابات خاطئة». لكن كان يمكن إلباسها هذه الصفة في ضوء الردّ الإسرائيلي والنتائج التي يحقّقها. ولمّا جاء الردّ عنيفاً جرى التأسيس لمقولة «الحسابات الخاطئة». فتح الجيش الإسرائيلي الأبواب والأفواه للانتقاد. وتأكّد أن الاستبطان الواعي أو غير الواعي للقوة الاسرائيلية التي لا تُقهر، هو المقدمة الضرورية لاستنتاج أن الحسابات الوطنية اللبنانية خاطئة. ويجب القول، في استطراد ذلك، إن هناك من وضع نفسه في موقع الراغب في نجاح العدوان لأن هذا النجاح، وحده، يحسم في أن التوقيت والحسابات ليسا على ما يرام.
ليس غريباً، والحالة هذه، أنه بقدر ما كان الفعل الإسرائيلي العسكري يثبت محدوديته كانت أصوات تخفت. كانت تخفت مكتشفة أن الخطأ الأبرز هو تقديرها لميزان القوى. والأنكى من ذلك أنه بقدر ما كانت إسرائيل تعوّض بالإجرام المنفلت من عقاله عن تعثرها العسكري، كانت الأحداث نفسها تقفز نحو تعداد الخسائر، وهي هائلة، من أجل أن تُلقي المسؤولية على من ترى فيه قلّة دراية بالحساب.
سيشرّع العدوان الاسرائيلي على لبنان ونتيجته أبواب النقاش هنا وفي المنطقة والعالم. وظيفة الإعلام، بالمعنى النبيل، متابعة هذه السجالات ورصدها ونقلها بأمانة والمساهمة فيها. ستكون «الأخبار» حاضرة.
مهمّتنا في الجريدة مزدوجة. مواكبة ما يجري والعمل الداخلي من أجل الانتقال بـ«الأخبار» إلى صورتنا عنها، إلى عدد الصفحات الذي كان مقرراً، إلى استعادة الأبواب والزوايا التي اضطررنا إلى تعليقها، إلى نشر المواضيع التي كنا نتمنّى الخوض فيها.
نراهن على النجاح في المهمتين معاً (قول العكس ليس لائقاً!). ندرك أنها مغامرة، غير أنها مغامرة محسوبة. سنفعل ذلك معلنين أننا ننتمي، سياسياً، إلى معسكر رافضي الهيمنة، وهو معسكر يمتدّ من قلب الولايات المتحدة الأميركية إلى أقاصي الشرق وأفريقيا وأميركا الجنوبية وأوروبا، ومعلنين أيضاً أننا ننتمي، مهنياً، إلى معسكر الحرص على التعددية والديموقراطية والموضوعية والحداثة والثقافة الإبداعية. يقف لبنان، وربما المنطقة، على منعطف مهمّ. لبنان الخارج من صلابة الممانعة وركام الخرائب لن يكون لبنان الذي عرفناه قبل شهر. وبهذا المعنى، ليس بغيره، «لا عودة إلى ما قبل 12 تموز».
إن «الأخبار» جريدة مشاركة في الاعتراض على هذه العودة. فلبنان قبل 12 تموز كان وطناً معلّقاً ومزرعة سمّيت، تجاوزاً، دولة. يجب الحؤول دون ترميم المزرعة من أجل التقدم نحو بناء دولة المواطنين التي يمكنها، وحدها، بعدلها وقدرتها وحرصها السيادي، أن تستوعب هذا الاستعداد المذهل للانتصار على الصعاب، وأن تنظر إلى المقاومة، اي مقاومة، بصفتها عصباً يشدّ النسيج الوطني، ويقوّي صلابته، ويدافع عن عروبته، ويمنع انزلاقه نحو الخراب الكبير الرافع وهم «الحياد» والداعي إلى حرمان الأمة من المساهمة اللبنانية الفذّة.
دلالات المواجهة المستمرة كثيرة. ليس أقلّها هذا الانكشاف المريع لوضع النظام العربي الرسمي واتساع الهوّة بينه وبين شعوبه. لا بدّ من رفع سقف النقاش بشأن القضايا العربية كلها واستعادة هذا التقليد اللبناني القائل بأن المسكوت عنه في مكان آخر، مباح هنا. كذلك سنحاول التفكير في أحوال العالم ودوله الكبرى وقواه النافذة ومؤسساته وهيئاته. لقد امتُحنت كلها في لبنان، وهناك الكثير مما يمكن قوله من أجل أن نعرف في أي كون نعيش وأين موقعنا فيه.
الاهتمام، قدر المستطاع، بالقضايا العربية والدولية ليس ترفاً. إنه شرط لوعي ما يجري في لبنان وللبنان، ولمواجهة التفكير الريفي، المركنتيلي، المقاطعجي الذي يشكّل العمود الفقري للمنظومة الفكرية للطبقة السياسية الحاكمة.
«الأخبار»، اليوم، بين أيدي القرّاء. لا ندري تماماًَ أين هم. من هو النازح ومن هو المضيف. عسى أن يتاح لهم وقت لأن يقرأوا، أولاً، ولأن يشبعونا نقداً ثانياً. نعدُ أن نستمع، وأن نصوّب، وأن نجتهد. نعدُ، أيضاً، أن نرمي غير بحصة في بحيرة الإعلام اللبناني.