جوزف سماحة
يكاد مجلس جامعة الدول العربية يتحوّل إلى كيس ملاكمة. ليس بمعنى أنّه يتلقّى الضربات، بل بمعنى أنّه لا يشعر بها. الضربات التي تأتيه من الرأي العام العربي متناقصة، فالشعوب لا تعوّل كثيراً على هذه المؤسسة ولا تكاد تنتبه إلى أنها موجودة. وربما يشترك العرب مع الإسرائيليين في هذا الانطباع. ففي تل أبيب تحوّلت الاجتماعات الوزارية العربية الى «لا خبر». لم يحصل شيء في القاهرة أوّل من امس.
لعلّ المدخل إلى اكتشاف هزال «العمل العربي المشترك» هو قياس «القرارات» المتّخذة بالتحدّيات التي تواجه المنطقة.
كان العدوان الاسرائيلي على لبنان آخر هذه التحديات. وفي خلال اسابيع، كان المزاج الرسمي العربي يتلوّن حسب الظروف وتطوّر الصراع: من حماسة لا تكاد تكون مكتومة لأهداف الحرب الاسرائيلية، في القاهرة ــ 1، إلى «توجيه التحية لصمود لبنان ومقاومته الباسلة» في القاهرة ــ 2، مروراً بمؤتمر بيروت الحائر بين الموقفين.
لقد صدف انعقاد الاجتماع الأخير مع تجدّد التهديدات الاسرائيلية، ومع ازدياد تجاوز القرار 1701، ومع الاستفزازات المتتالية... ومع ذلك يصعب أن نجد في البيان الختامي ما يوحي بتعاط جدّي مع هذه العناوين.
إلى ذلك، استبق إيهود أولمرت اللقاء بإعلانه أنّ «خطة الانطواء» لم تعد ذات شأن، أي لا جديد في الأفق الإسرائيلي ــ الفلسطيني سوى الاحتلال والمقاومة. ومع ذلك...
لا يعني ما تقدّم أن «خطة الانطواء» تحمل أيّ إيجابية. فهي، في الحقيقة، خطة لاقتطاع قسم من أرض الضفّة وتوجيه ضربة للتفاوض والحل، لكنّه يعني أن أولمرت سحب من التداول ما كان يمكن للنظام العربي الرسمي التعويلعليه لإيهام النفس بأنّ شيئاً ما يتحرك.
اللافت أن الاجتماع الوزاري تجاهل العراق تماماً. صحيح أنّ الأحداث في لبنان «غطّت» على أنباء العراق، لكنّ الأصحّ هو أن الشهر الماضي كان أكثر دموية في العراق مما هو في لبنان. بل ربما كان الأكثر دموية منذ أن تولّت الإدارة الأميركية الإشراف على الوضع. ولقد قرأنا في صحيفة مركزية أميركية أول من أمس مقالاً موسّعاً عن المخاطر الماثلة في استمرار تطور الحالة العراقية في وجهتها الحالية. إن الكارثة خلف الباب. وهي كارثة تطاول المشرق العربي كله لكن، أيضاً، دول الخليج.
خرج الاجتماع بمواقف عامّة داعمة للبنان سياسياً واقتصادياً (مع وقف التنفيذ)، لكنّ القرار الرئيسي كان التوجّه إلى مجلس الأمن لدعوته على مستوى وزاري إلى وضع يده على الصراع مع اسرائيل. يأتي ذلك بعد اعتراف رسمي في المؤتمر الأسبق في القاهرة بأن عملية التسوية، كما نعرفها، ماتت، وبعد اعتراف عمرو موسى بأنهم «ضحكوا علينا» لعقود.
ربما كانت التسوية ماتت من كثرة الضحك. وربما كان من الواجب طرح سؤال عن سرّ هذا الضحك المتمادي الذي يستمرّ عقوداً. لكن يبقى أنّنا أمام شهادة وفاة لمرتكز من مرتكزات العمل العربي المشترك، وأمام إيحاء بأن ذوي الضحية وجدوا مخرجاً.
المراد من التوجّه إلى مجلس الأمن إبداء التشكّك في المؤسسات المسؤولة عن رعاية عملية التسوية. وفي هذه الحالة فإن اللجنة الرباعية (أميركا، روسيا، الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة) هي المقصودة. والطريف، في هذا المجال، اختيار أحد أضلاع المربّع من أجل مخاطبته (الأمم المتحدة) تأسيساً على ملاحظة الفشل في عمل الأضلاع كلها.
إلا أن الطريف ليس طريفاً في الواقع. إنه محزن. فالوزراء العرب يعرفون أكثر من غيرهم، أن «الرباعية» مجرّد ديكور تستحضره الولايات المتحدة في الوقت بدل الضائع. وبما أنّهم لا يجرؤون على تسمية واشنطن بالاسم، فإنّهم يوجّهون كلامهم إلى أسمائها المستعارة. والمحزن أكثر، أنّ مجلس الأمن يكاد يتحوّل بدوره إلى واحد من هذه الأسماء المستعارة بشهادة الأثر الذي تركه فيه توجّه «الوفد العربي» لمخاطبته في الشأن اللبناني.
إن مجلس الأمن، مثله مثل جامعة الدول العربية، حصيلة جمع بين الدول الفاعلة فيه. وليس سرّاً أنّ الولايات المتحدة التي تعاملت بإهمال مع المجلس في السنوات الأخيرة (بدليل تعيين جون بولتون مندوباً لها فيه) تلجأ إليه هذه الأيام مستفيدة من التردّد الروسي والصيني ومن الالتحاق البريطاني ومن الانعطافة في السياسة الفرنسية.
إن التوجّه إلى مجلس الأمن لا يفيد كثيراً. أو هو لا يفيد كثيراً إذا كان في صيغة «مناشدة».
إنّ السياسة الأميركية في المنطقة أكثر من واضحة. ومن حقّنا أن نخاف نجاحها كما من واجبنا أن نخشى اندفاعها المستند إلى الإنكار العنيد للفشل.
والسياسة الإسرائيلية واضحة، وقد يكون انهيار السلطة الوطنية نتيجة حتمية لها سواء عبر المواجهة او بقرار ذاتي.
أمام مثل هذا الوضع لا نفع للمناشدة. لا معنى للتعاطي مع مجلس الأمن كأنه «حائط مبكى العرب». لذلك فإن الخطوة العربية ستبقى خطوة ناقصة، خطوة غير سياسية، ما دامت تكتفي بالنيات الحسنة.
إن ألف باء العلاقات الدولية هو امتلاك بدائل التلويح بها. وإذا كان الذهاب إلى مجلس الأمن خطوة في الاتجاه الصحيح، فإنها قاصرة تماماً عن أن تكون ذات قيمة استراتيجية. فمن الواجب في موازاة ذلك، توضيح ما الذي يمكن القيام به إذا استمرّ الجمود على حاله، وإذا عطّلت الولايات المتحدة عمل المؤسسة الدولية.
إنّ أيّ متفاوض لا يملك سوى ورقة وحيدة، عرض السلام، سينتهي مضطرّاً إلى الاستسلام. وأيّ متفاوض يتخلّى عن عناصر القوة لديه سيجد نفسه متدحرجاً إلى هاوية لا قعر لها.
إن هذه هي معضلة الوضع العربي قبل القرار الوزاري الأخير وربما بعده. ثمة دولة عربية، مثلاً، تقدم في هذه اللحظة بالذات، على مكافأة بريطانيا عن طريق عقد صفقة طائرات عسكرية معها بما تزيد قيمتها على أحد عشر مليار دولار. لنعترف بأنّ هذه الصفقة لا جدوى منها في ما يخصّ موازين القوى في القضايا التي يقول البيان الختامي إنّ العرب يشكون منها. ولنعترف بأن لا ضرورة لمسايرة حكومة طوني بلير التي يعترض البريطانيون، في أغلبيتهم، على سياستها الالتحاقية بواشنطن والمناهضة للعرب. ولنعترف، أخيراً، بأنّ هذه رسالة سيئة توحي أنّ هناك، بين العرب، من يحوّل شراء السلاح إلى تخلّ عن السلاح!
لا أمل يُرجى، في الأحوال الراهنة، من العمل العربي الرسمي. يتأكّد الأمر اجتماعاً بعد اجتماع، وسواء أعقدت القمة أم لم تعقد. الانكشاف يزداد. الهوّة تتّسع بين الحكومات وشعوبها. التطرّف الالتحاقي يستولد التطرف الإقصائي. الحكومات في واد والرأي العام في واد.