جوزف سماحة
العالم مشغول بلبنان. إن في الأمر ما يدغدغ النرجسية الوطنية. هذا خطأ. إن العالم مشغول فعلاً... بإسرائيل. ففي مجلس الأمن، وعواصم القرار، وعشرات البلدان المرشّحة للمشاركة في «يونيفيل» ثمة صخب كثير. إلا أن التدقيق يوضّح أن الانشغال بالمُعتدى عليه سببه الاهتمام بالمعتدي.
ماذا تقول لنا هذه الملاحظة:
أولاً ــ الموافقة الإسرائيلية، ولو الشكلية، على أن ترابط عند الحدود قوة دولية تابعة لمجلس الأمن، إن هذه الموافقة مخالفة لعقيدة ثابتة. إن القاعدة هي أن الجيش يحمي الدولة، وكذلك المعاهدات المفروضة على الجيران والتي لا تستلزم سوى مراقبين أو قوات متعدّدة الجنسية. الموافقة الإسرائيلية دليل اطمئنان نسبي إلى الدور الأميركي في تعريف مهمة هذه القوات والتحكّم في تركيبتها. بكلام آخر، إن إسرائيل مرتاحة إلى «النظام العالمي الجديد» ذي الأرجحية الأميركية الكاسحة وهي الأرجحية التي تحاول، عبثاً، ترجمة نفسها في «نظام شرق أوسطي جديد». إن هذه الأرجحية، ليست تلك المعبّر عنها بعد 11 أيلول فحسب، بل، تحديداً، تلك المعبّر عنها بعد تراجع اعتراضات كثيرة على المغامرة الأميركية في العراق.
يجب أن نضيف إلى ذلك أن الاطمئنان الإسرائيلي (والأميركي) اضطراري بعض الشيء. فهو يعبّر، أيضاً، عن اكتشاف «حدود القوة» أي عن اكتشاف محدودية القدرة الإسرائيلية على تنفيذ مهماتها المرغوبة والمعلنة في لبنان. لا بدّ، في هذا الوضع، من الذهاب نحو مراجعة داخلية وترميم دور الجيش تحسّباً لمواجهات مقبلة. يقود ذلك إلى استنتاج يقول إن إسرائيل تتعاطى مع عالم تغيّر فعلاً وإنها تريد فرصة لالتقاط الأنفاس من أجل أن تستوعب كم توجب الحرب الأخيرة من تغييرات عليها.
ثانياً ــ ليست إسرائيل في وارد القبول بقوّات مماثلة في الأرض الفلسطينية المحتلة. لقد سحبت «خطة الانطواء» من التداول. وهي لا ترى سوى التصعيد في الأفق. ومع ذلك فهي لا ترى أي دور للأمم المتحدة وهيئاتها وقواتها وقراراتها. سيكتشف العرب ذلك، مجدداً، عندما يتوجّهون إلى مجلس الأمن لـ«إحياء» عملية التسوية. إن الموافقة في لبنان والرفض في فلسطين وجهان لعملة واحدة. ففي لبنان تقدّم الموافقة بصفتها مدخلاً للمطالبة بمهمات تكون امتداداً لما حاولته إسرائيل وفشلت. فالقوة الدولية، برأي إسرائيل، هي الذراع اليسرى التي يُفترض فيها أن تفعل ما لم تستطعه الذراع اليمنى. فالانتقال لا يحصل من جيش ينفّذ سياسة دولة إلى قوات تنفّذ سياسة هيئة دولية تملك اعتبارات قد لا تكون متماهية تماماً مع سياسة تلك الدولة. بكلام آخر الانتقال يغيّر الأداة ولكن المهمة تبقى هي نفسها.
إن السرّ في الرهان الإسرائيلي المشار إليه هو الثقة بقدرة واشنطن على إخضاع الأجندة الدولية لرغبتها ورغبات حليفتها.
ثالثاً ــ لا عجب أن ترتاح إسرائيل إلى مجلس الأمن. لقد خالف ميثاق الأمم المتحدة من أجلها. وبدل أن يكون معنيّاً بالحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين شرع يتحدث عن «وقف الأعمال العدائية تمهيداً لوقف إطلاق نار دائم» ما أدى إلى سقوط مئات الضحايا. لقد تأخّر شهراً كاملاً في الانعقاد لأن أميركا وبريطانيا تريدان ذلك ولأن فرنسا تأخّرت في تغيير رأيها. تأخّر المجلس ومسوّدات القرارات التي ناقشها تباعاً والتواطؤ العربي مع ذلك، إن هذه كلها عوامل دافعة إلى الحبور الإسرائيلي. ولولا الصمود العسكري والمواجهة الميدانية والقدر من الحكمة لدى لبنانيين لجاء القرار 1701 إسرائيلياً بالكامل بدل أن يكون ميّالاً لإسرائيل مثل حاله الآن.
رابعاً ــ تتابع إسرائيل، طبعاً، مناقشات جارية في دول يُحتمل أن تشارك في «يونيفيل». وفي المتابعة راحة. ثمة دول تتدافع لكي تشارك في الحصار البحري تجنّباً لشبهة مواجهة مع إسرائيل. وثمة دول تريد عزل لبنان عن سوريا. الألمان يتحمّلون وطأة تاريخهم ولا يخشون شيئاً قدر خشيتهم من التعرّض لجندي «يهودي». والإيطاليون يطالبون إسرائيل بوقف النار شرطاً للقدوم. ويتردّد أن في الجو موافقة على طلب تل أبيب بمنع مشاركة أي دولة لا تعترف بالكيان. يُفترض بنا أن ننتظر الاجتماع الأوروبي بعد غد لمعرفة أين استقرّت الأمور.
خامساً ــ لقد بات مشروعاً التساؤل عمّا إذا كان سحب «الفصل السابع» جاء تلبية لطلب إسرائيلي خفيّ. صحيح أنه كان موجّهاً إلى الجانب اللبناني حصراً ولكن ثمة إمكانية لتفسير متوسّع له يفرض التصدّي للتعدّيات الإسرائيلية. ولا بدّ، في هذا المجال، من ملاحظة «المعاملة التفضيلية» التي تحظى بها الخروقات الإسرائيلية.
سادساً ــ إن في أساس الموقف الإسرائيلي نظرة جديدة إلى موازين القوى الدولية وإلى عالم ما بعد «الحرب الكونية على الإرهاب». إن أفضل تعبير عن هذه المستجدات أسلوب جورج بوش في مخاطبة جاك شيراك «خصمه» في الحرب العراقية. يكاد الأميركي يؤنّب الفرنسي ويكاد يردّد حياله الإهانات التي تكيلها صحافة بلاده لفرنسا وسياستها ورئيسها. لا يكتفي بوش بأن يلوّح بقرار ثان في مجلس الأمن من دون أن تنطق باريس بكلمة بل يغري فرنسا بأنه يسمح لها بأن يكون لها موقع في لبنان. يهزأ بوش من الفرنسيين «يوم أمس خرجوا ببيان واليوم خرجوا ببيان آخر»، ثم يرفع من مقامهم كما يفعل مع حلفائه في العالم الثالث «فرنسا صديقة وحليفة»، ثم يطلق وعده «لفرنسا مصالح كبيرة في مستقبل لبنان ولو أوضح شيراك أنه مؤمن بأهمية الديموقراطية»، ويضفي بركته أخيراً عندما يصدر حكمه المبرم «ستبقى فرنسا لاعباً مهماً على المسرح الدولي ولاعباً بالغ الأهمية في لبنان». بكلام آخر يُقطع السيد الإمبراطوري القوة الانتدابية السابقة حصّة في لبنان مشترطاً عليها أن تحسّن الخدمة.
... ومع ذلك تبدو إسرائيل غير راضية تماماً. تحتج على أن التكامل بين جيشها والقوة الدولية ليس حرفياً. إن ما تريده فعلاً للبنان هو «احتلال بقبّعات زرق».