جوزف سماحة
قيل لإيران اختاري بين الأسود والأبيض. اختارت الرمادي. قدمت جوابها إلى مجموعة «الخمسة زائد واحد» (أميركا، فرنسا، بريطانيا، روسيا، الصين، ألمانيا) فإذا به الجواب المتوقع. إنه رد يحتفظ بالحق في امتلاك الدورة التكنولوجية النووية الكاملة، وهو مصوغ بشكل يهدف إلى تسليح المترددين (روسيا والصين) بما يسلح ترددهم، وإلى إحراج المتشددين (الآخرين) بما يحرج تشددهم.
لقد تمهّلت طهران أسابيع وأسابيع لتعلن في 22 من الشهر الجاري أنها مستعدة لبدء التفاوض في اليوم التالي. أكثر من ذلك بدت متلهفة إلى الشروع في المباحثات. أضافت تفصيلاً صغيراً بأن وضعت مصير قرارها بالاستمرار في التخصيب على طاولة الحوار، وذكّرت بحقوقها الواقعة تحت سقف المعاهدات الدولية، وطرحت أسئلة واستفهامات حول «الحوافز» المقدمة إليها من أجل تثبيتها وزيادتها.
إنه تمرين كلاسيكي جداً يجمع بين التمسك بالحوار والحقوق وبين حسن التفاوض. وهو حلقة في سلسلة تؤكد البراعة التي بتنا، نحن العرب، نفتقدها: تحويل المهلة المعطاة لتقديم جواب إلى موضوع شائك، الاستمرار في إصدار الإشارات الملتبسة، إرغام الجبهة المقابلة على تراجعات جزئية، استعراض القوة عبر مناورات عسكرية، التلويح بأوراق أخرى، تمتين الجبهة الداخلية، السعي التدريجي والدؤوب لتعديل موازين القوى... إن ما قد يراه بعضنا «استثناءً إيرانياً» هو، في الحقيقة، ألف باء العمل الديبلوماسي وممارسة السياسات. كان الجواب الإيراني متوقعاً ومع ذلك نشأ انطباع، عند تقديمه، بأن المناورة نجحت مع أنها لا تتردد في وصف نفسها بأنها كذلك.
هناك من زجر إيران: لا تفاوض قبل وقف التخصيب، أي لا تفاوض قبل التخلي عن الحق الذي هو ورقة القوة الأساسية. ردّت: لا وقف للتخصيب قبل التفاوض مع تلميح إلى أن الأمر قد يكون وارداً. سيجد الرد الإيراني من يستمع إليه ويدعو إلى أخذه في الاعتبار. وسيتّضح ذلك خلال أيام في المهلة الفاصلة عن 31 آب، موعد نهاية «الإنذار» والتوجه إلى مجلس الأمن. وهناك من يجزم، منذ الآن، بأن الجهة المقابلة أمام أحد خيارين: إمّا تختلف وتنشق وإمّا تتجه إلى الحد الأدنى من العقوبات الذي يزيد التوتر ولا يقدم حلاً. أضف إلى ذلك أنه ليس مستبعداً تماماً تحديد المهلة.
«لن نرقص على الإيقاع الإيراني» صرّح مسؤول أوروبي لـ«نيويورك تايمز». أدلى بتصريحه راقصاً. وهو سيكون مدعوّاً الى الاستمرار في الرقص إدراكاً منه أن الجواب الإيراني ليس مُرضياً لكنه، في الوقت نفسه، ليس من النوع الذي يزيد التماسك في معسكر «الخمسة زائد واحد».
اللافت أن أصواتاً بدأت ترتفع محذرة من أن تغلّب روسيا والصين المصالح على المبادئ. إنها أصوات يتظاهر أصحابها بأنهم يأنفون إقحام المصالح في السياسة، في حين أن ما يأنفونه، حصراً، هو إقحام مصالح الآخرين بشكل يعطّل عليهم إنقاذ مصالحهم. ولقد شهدنا نموذجاً عن هذا الرياء عشية العدوان على العراق. فلقد اكتشفت صحف «المبادرة الحرة» الأميركية أن العيب الفرنسي الحائل دون المشاركة في الغزو هو الحرص الوضيع على المصالح. وليس مستبعداً إطلاقاً أن تنضم صحف فرنسية هذه المرة الى زميلاتها الأميركية مكتشفة، في السياق نفسه، عيوب فلاديمير بوتين ضابط الاستخبارات السابق، وعداء القيادة الصينية للديموقراطية.
سيتجدّد النقاش في أوروبا والولايات المتحدة حول السلوك الواجب اتباعه. إيران في موقع قوي. إنها دولة إقليمية مركزية. «النووي» قضية وطنية ذات صلة بالكرامة والرغبة في التقدم. الحرب الموضعية لا جدوى منها. الحرب الشاملة مكلفة جداً. تغيير النظام وإنهاء الطغيان ليسا في المتناول. المنطقة ملتهبة أساساً وثمة مخاطر في استفزازها أكثر. أسعار النفط قد ترتفع متسببة بركود عالمي. ضرورات العمل الجماعي تفرض قيوداً. المخاطر من التدهور في أفغانستان والعراق ضاغطة. إلخ...
ستقابل الحجج الواردة آنفاً بحجة قوية: نقرّ بأن كل ما تقدم صحيح ولكن الخلاصة التي نصل إليها هي أن العمل ضد إيران عاجلاً أفضل منه آجلاً. إن اليوم التالي للمواجهة يبقى أشدّ رحمة على المصالح الغربية من اليوم التالي لتجاوز طهران الخط الأحمر.
يخترق هذا النقاش كل بلد معني بما في ذلك الولايات المتحدة. وربّما هو يخترق الإدارة نفسها بين الراغبين في حسم عسكري ولو انفرادياً (أو مع إسرائيل) وبين دعاة العقوبات الجماعية المؤذية.
لن يستقرّ هذا النقاش في المدى القريب، إلاّ أنه سيكون مناسبة لاستكشاف أمور عدة.
ثمة اختبار لموقع القيادة الأميركية في العالم. صحيح أن الأوروبيين باتوا أكثر اقتراباً منها ولكن هذا، وحده، لا يكفي تماماً للتعاطي مع أزمة كونية بهذا الحجم.
ثمة اختبار، أيضاً، لمدى القدرة على تطويع مجلس الأمن وخاصة الأعضاء غير الدائمين. فهؤلاء يختزنون مرارة تجاهلهم في شهر الأزمة اللبنانية.
وثمة اختبار للدروس التي خرج بها العالم من التعثر الأميركي في العراق والتعثر الأميركي ـــ الإسرائيلي في فلسطين.
وأخيراً، ثمة اختبار للموقع الذي تحتله حصيلة العدوان الإسرائيلي على لبنان في مراكز صنع القرار.
توجب النقطة الأخيرة التنبيه إلى أنه ما من معالجة واحدة للأزمة مع إيران إلاّ تلاحظ أن «حرب تموز» وقعت بين استلام طهران العرض وجوابها عليه. والإجماع قائم على أن فشل العدوان الأميركي ـــ الإسرائيلي يجعل الموقع الإيراني أقوى. ولكن هنا، أيضاً، تبرز المانوية الفاقعة، أسود أو أبيض. وهي تبرز على شكل الدعوة إلى مواجهة شاملة.
نقترب من لحظة الحقيقة في الإقليم متناسين أن من التقليدي، في مناسبة كهذه، التأسف على الغياب العربي الفعّال.
كان يمكن الجواب الإيراني الرمادي أن يكون فاتحة تفاوض جدي. إلاّ أن الشرط الناقص لذلك هو أن الرئيس الأميركي جورج بوش يعيش في كوكب آخر كما تقول افتتاحية إحدى الصحف الأميركية. كان الأجدى بها أن تقول إنه يعيش فوق كوكب خاص.