جوزف سماحة
تمرّ الأيام على وقف الأعمال العدائية، والحصار الإسرائيلي للبنان مستمر. إنه، فضلاً عن استمرار بقاء قوات الاحتلال في عدد من المواقع، أبرز معالم الخرق الإسرائيلي للقرار 1701.
وفيما الحصار مستمر، يوزع مكتب رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بياناً عن اتصال بوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس. ينقل البيان «أنها تبذل جهدها بشكل جدي وحثيث لرفع الحصار عن مطار بيروت في أقرب وقت ممكن آملة أن تسفر جهودها عن النتائج المرجوة. وشددت على أهمية أن تتولى السلطة اللبنانية ضبط المعابر على الأراضي اللبنانية».

البيان غريب ومستهجن. فلو كان المكتب المشار إليه ملحقاً بوزارة رايس وموضوعاً في خدمتها، لكنّا فهمنا البيان. إلا أن من غير المقبول أن تعمّم على اللبنانيين هذه الادعاءات الكاذبة، وأن ينقل إليهم التهديد المبطن الخاص بضرورة ضبط المعابر.
قرار مجلس الأمن يطلب رفع الحصار. لم يحصل ذلك حتى الآن. واللبنانيون الذين يتولون العمل لتحقيق ذلك يسمّون الاتصالات الهاتفية التي يجرونها «مواجهة قاسية». هناك من ينسب إلى مرجع حكومي «الغضب» من التلكؤ في الضغط على إسرائيل، ومن ينسب إلى زعيم سياسي قوله لمسؤول: «إن اللبنانيين لم يعودوا يحتملون الضغط المتواصل عليهم من إسرائيل والمجتمع الدولي يتفرج...». ويذهب وزير إلى التصريح بأن «الإدارة الأميركية تقف إلى جانب إسرائيل في استمرار الحصار، ونتمنى أن يأتي أنان والحصار قد رفع لأننا، نحن اللبنانيين، لا نستطيع أن نتحمل مزيداً من الإذلال». كلمات. كلمات. كلمات.
الحصار قرار أميركي ــ إسرائيلي. يستطيع كوفي أنان أن يقول ما يقول. يستطيع جاك شيراك أن يقول ما يقول. يستطيع رومانو برودي أن يقول ما يقول. فهؤلاء جميعاً يعملون، حتى يثبت العكس، تحت السقف الأميركي ولا يشعرون بالحاجة إلى الانتفاض رداً على استهتار واشنطن بهم.
إن ما يهمنا، في هذا المجال، هو سلوك الحكم اللبناني. إنه سلوك عاجز ومستسلم. يكتفي بأن «اتصلنا، حاورنا، رجونا، شكونا، نحترم التزاماتنا»، ولكن «لا حول ولا قوة» والمكاتب الحكومية الرسمية جزء من حملة العلاقات العامة التي تديرها رايس بعدما خسرت حربها.
يتعامل الحكم مع الحصار من موقع المهزوم، من موقع من يرد على الإملاءات بواقعية، من موقع من يتظاهر بالحكمة ويحترف التظلم.
ليس هذا خطأً أو سوء تصرف. إنه ثقافة. إنه نظرة إلى النفس تستدعي قلة الاحترام من الآخرين. إن التعاطي الرسمي مع الحصار هو امتداد حرفي للتعاطي الرسمي في قضية ثكنة مرجعيون.
ما حصل في الثكنة، وما جرى الكشف عنه لاحقاً، تعبير عن اتجاه «أصيل» في لبنان. لذا لا نتوقع أي تحقيق جدي أو محاكمة. الحادثة تكثيف استثنائي لـ«استراتيجية دفاعية» يرفع لواءها سياسيون ومسؤولون: القوى العسكرية دفاع مدني، العلم الأبيض حاضر للارتفاع، السلاح غير قابل للاستخدام، التهرب من المواجهة دليل نضج، ارتضاء الذل حكمة، استبطان القدرة التطبيعية تعبير عن حسن الضيافة، دفع العناصر العسكرية للامتثال لجنود العدو طريق الخلاص، الاستنجاد بالقوات الدولية واجب، الاتكال على عواصم القرار خيار وحيد، مغادرة أرض المعركة قرار صائب، ثم نتعرض للقصف، ويسقط ضحايا، ولا من يحاسب.
«مرجعيون» نهج لا حادثة. «مرجعيون» وعي لا سلوك طارئ. «مرجعيون» إيديولوجيا حاكمة لا انحراف بسيط. «مرجعيون» حاضر أحمد فتفت لا ماضيه. «مرجعيون» هي اللبناني كما يحبه الإسرائيلي. «مرجعيون» انتصار للزعم الصهيوني بأن فرقة موسيقى الجيش تحتل لبنان. «مرجعيون» نقيض للمقاومة، ولو كانت احتمالاً. «مرجعيون» إهانة شخصية. «مرجعيون» مدرسة.
إن «عقلية مرجعيون» هي المتحكمة اليوم بإدارة الموقف اللبناني من الحصار المستمر، وهو موقف يتميز بالميل إلى استجداء الحقوق وإلى تفهم مبالغ فيه لمطالب العدو ولتحفظات داعميه.
«ديبلوماسية الهاتف» لا تحل المشكلة وحدها. فمن الممكن، مثلاً، التلويح بعدم استقبال أنان قبل رفع الحصار. وكذلك مطالبة القوات الدولية بوقف انتشارها. ويمكن تعليق المضي في الإجراءات الخاصة بالمعابر، والحض على مقاومة مدنية للقوات الدولية الموجودة. كما يمكن فرض حصار على المراكز المسؤولة عن استمرار الحصار الإسرائيلي. يمكن الضغط على مجلس الأمن للانعقاد. باختصار، يمكن فعل الكثير من أجل تدعيم الاعتراض اللبناني. إلا أن الواقعية المبتذلة ترى رأياً آخر وتتجاهل أنها، بذلك، تهين تضحيات اللبنانيين.
إن «عقلية مرجعيون» هي التي تحاصرنا أو تشارك في حصارنا. هي التي تجتهد ليبدو الانتصار الجزئي هزيمة كاملة. آن لهذه «العقلية» أن تسقط.