جوزف سماحة
المطالبة بتأليف حكومة اتحاد وطني أصابت نقطة حسّاسة لدى الأكثرية النيابية. سارعت إلى الرفض. تنوّعت الأسباب لكن الموقف واحد.
قال أحد الأقطاب إنه ضد تغيير الحكومة لأنها أوقفت الحرب، وغيّرت القرار 1701، وقاومت إسرائيل. أضاف انها ستُخرج إسرائيل من الأراضي اللبنانية وستعيد الاقتصاد إلى ما كان عليه. ختم بأن «السنيورة أثبت أنه رجل دولة».
قرأنا ولم نفهم، هل لو كانت الحكومة حكومة اتحاد وطني لما كانت فعلت ما فعلته؟
وهل إذا أجمعت حكومة اتحاد وطني فستعجز عن القيام بالمهمات المنسوبة إليها. الحجج غير مقنعة تماماً. يجب التفتيش عن السبب في مكان آخر.
عبّر نائب بارز في الأكثرية عن خوفه من المجهول. ففي رأيه أن «استقالة الحكومة الراهنة قبل التوافق على شكل حكومة الاتحاد ستكون عملاً انتحارياً. ليس المهم أن نؤلّف حكومة بل أن نتفق على بيانها الوزاري وأهدافها». الاعتراضات، عند هذه الحدود، معقولة. إلا أن النائب يستطرد بأن «من شبه المستحيل الاتفاق على حكومة اتحاد وطني». الحل، في رأيه، هو «انتخاب رئيس جديد».
إذا كان تأليف حكومة الاتحاد الوطني مستحيلاً فإن من المستحيل، أيضاً، القيام بمهمات إزالة آثار العدوان التي تقتضي وحدة وطنية راسخة. هذا أولاً. ثانياً، بات واضحاً أن البيان الوزاري للحكومة الراهنة لم يعد قائماً عملياً، وربّما كان الإقدام على تأليف حكومة جديدة مناسبة ممتازة لطرح القضايا الخلافية والسعي إلى إنتاج توافقات عليها. إن خوض هذه التجربة أفضل من استمرار حكومة فاقدة لأساسها السياسي بعدما تحلّل «الائتلاف الرباعي» الذي أنجبها. أما موضوع رئيس الجمهورية الجديد فسبب إضافي لبحث كيفية توسيع التمثيل السياسي.
فالعجز عن إزاحة إميل لحود مردّه «حسابي» وسياسي. والشقّ الثاني أهم. لذا يجب الانفتاح على القوى الراسخة التمثيل حتى لا يتفاقم الشعور بالعزلة لدى فئات لبنانية.
استغرب نائب «راديكالي» من الأكثرية اهتمام طرف سياسي بالحصول على مناصب في هذا الوقت بالذات. تناسى نائبنا أن هذه هي مهمة أي حزب سياسي. تناسى أيضاً أنه لم يكن أقل اهتماماً بالحصول على المقعد النيابي وأنه حصل عليه بالفعل في عملية تزوير ديموقراطية (إذا جاز القول) لإرادة الناخبين. وبما أنه يدرك أن هذا هو أفقه فإنه يمتشق سيف التحريم الأخلاقي من أجل أن يحاضر في «العفّة السياسية».
النقاش في موضوع حكومة الاتحاد الوطني موارب. لعبة مرايا. الطرفان الأساسيان اللذان طالبا بها هما «حزب الله» و«التيار الوطني الحر». الأطراف التي رفضت تعلن أو تضمر أن مشكلتها الرئيسية في المرحلة الأخيرة هي مع «حزب الله» بصفته مقاومة. ولكن المفارقة، هنا، هي أن «الحزب» ممثّل فعلاً في الحكومة مع أنه موضوع المشكلة، بما يعني أن الاعتراض لا يطاله عملياً. الاعتراض الفعلي هو على تمثيل «التيار الوطني».
لـ«حزب الله» النصيب الأكبر من الهجوم الإعلامي ومن الانتقاد السياسي، من تحميله المسؤولية عن «النكبة». لكن لا أحد يطرح مسألة مشاركته في الحكومة، فيبقى أن «التيار» هو الممنوع. لماذا؟
أولاً ــ «التيار» ممنوع من المشاركة لأن تفاهماً يشدّه إلى «الحزب». ولم نستمع إلى نقاش جدّي لمضمون هذا «التفاهم». في المقابل نلاحظ رفضاً قاطعاً للتسليم بالبديهية القائلة بأن ما تم التوافق عليه بين الطرفين هو ما كرّسته «هيئة الحوار» لاحقاً. كان ذلك قبل العدوان. أما بعد العدوان فإن ما يرسو عليه الوضع أقرب إلى روحية ذلك «التفاهم» من أي برنامج سياسي آخر. يتأكّد ذلك من قراءة الوثيقة التي أذاعها أول من أمس ثلاثة من أعضاء «14 آذار». إنها، في العمق، وثيقة ضد «الحليف الحكومي»، وانتقادية حيال جانب من ممارسات مجلس الوزراء هو، بالضبط، الجانب الذي أعلن «التيار» موافقته عليه ودعمه له. أين الموضوع إذاً؟ الموضوع هو أن رفض مشاركة «التيار» هو رفض لتوفير شروط التسوية الداخلية، أي تعزيز المناعة. و«الوثيقة» المشار إليها واضحة هنا أيضاً. فهي ترفض منطق التسوية وتكثر من استخدام تعابير «الحزم» و«الحسم».
ثانياً ــ إن حكومة اتحاد وطني بمشاركة «التيار» هي حكومة ذات موازين قوى مختلفة عن الراهنة. وإذا سلّمنا جدلاً بأن هذا التعديل قد لا يصبّ في مصلحة «حزب الله» حكماً فمن المؤكد أنه سيأكل من حصة الأكثرية الراهنة، ومن «حصّتها» المسيحية تحديداً. هنا بيت القصيد. وهذا هو الممنوع. تفضّل هذه الأكثرية تقاسم الحصّة المسيحية مع الرئيس الذي تدعو إلى استقالته وتراهن على استمالة وزراء إليها. وهي، في ذلك، عديمة الاهتمام بالشكوى من التهميش لا بل ساعية إلى المزيد منه. بكلام آخر، نحن أمام أكثرية (؟) ترتضي هذه الأزمة الوطنية ذات التوتر المنخفض (حتى الآن) لأنها لا تريد التنازل عن موقعها الاستئثاري.
ثالثاً ــ إن إدخال التيار في الحكومة قد يبدو نوعاً من العقوبة لقوى مسيحية ملتحقة بهذه الأكثرية وقابلة لتزوير واقع الضآلة باسم المشاركة الفعّالة. هذه قوى، في غالبيتها، فائزة بأصوات الأكثرية وأحياناً بأصوات «حزب الله». إن تحويل الحكومة إلى انعكاس صحيح لموازين القوى الفعلية سيقود إلى واقع جديد يمكن القول معه إن النصاب السياسي موزّع بين معسكرين رئيسيين بما يمنع على أي طرف ادّعاء احتكاره.
رابعاً ــ إن الالتزامات المقطوعة أمام جهات أجنبية تشترط قدراً من التحلّل من القيود الداخلية. ومن يدقّق في المشهد يلاحظ نوعاً من تقسيم العمل.
فعلى هذه الجهات الأجنبية معالجة «الاستعصاء» الذي تمثّله المقاومة، فيما يقع على الجهات الداخلية مساعدتها في ذلك أولاً وتولّي تطويق «الحالة العونية» ثانياً.
خامساً ــ إن القرار الخارجي والداخلي هو بمنع ترجمة شبه الانتصار الذي تحقّق ميدانياً إلى توازن سلطوي جديد يحميه. فما نشهده بعد الحرب لا يملك إلا عنواناً واحداً هو ضبط آثارها ومنعها من التفاعل. ولا بأس، في هذا المجال، من دفع لبنان نحو أزمة سياسية في مقابل الأزمة السياسية التي تتخبّط بها إسرائيل. وإذا كانت هذه الأخيرة شعرت باهتزاز موقعها لدى السيد الإمبراطوري بفعل تعثّرها فليس غريباً أن تحسب قوى في الأكثرية حساباً لموقعها لدى السيد نفسه وخاصة أنها تعلم أنه لا ينظر إليها بإكبار.
قد لا يكون الأمر قابلاً للتصديق إلا أنها الحقيقة. هناك في لبنان من يعتقد حقاً بأن صفقة التبادل الفعلية المطروحة للبحث هي بين الأسيرين الإسرائيليين وحقيبتين وزاريتين!