بيار أبي صعب
رحل نجيب محفوظ، عميد الرواية العربية. مرة أخيرة ابتسم لرفيقة دربه، على سرير المستشفى. «الموظّف المطيع» الذي لم يكن كذلك تماماً، خدعنا ومضى، تاركاً وراءه تاريخاً من المفارقات والمواقف الاشكالية. لم يتعب الأديب المصري الكبير من الحياة على الأرجح، هو الذي تلاعب طويلاً مع الموت. لقد تمسك بها حتى الرمق الأخير، ثم فضل الانسحاب بهدوء، تاركاً الحداد يلفّ الرواية العربية. وبغياب نجيب محفوظ ينطوي عصر كامل من تاريخ مصر الحديث، ومن تاريخ الثقافة العربية... عصر كان هو الشاهد الثابت عليه، رافقه دائماً بالحياد نفسه، وبالحس التوفيقي الذي صار من علاماته الفارقة.
هناك لغز اسمه نجيب محفوظ. اليوم وقد انسحب الشيخ التسعيني بالخفة نفسها التي عاش بها، في لحظة عبثية وعنيفة من تاريخ المنطقة العربية، حان الوقت كي نسأل عن السرّ، كي نستعيد أسطورة ذلك المثقف الذي استطاع طوال سبعين عاماً أن يحافظ على تأثيره وفاعليته، وعايش التقلبات السياسية والمنعطفات الحاسمة، الثورات والأنظمة والحروب، من النكسة الى حرب تشرين، من ثورة يونيو ٥٢ الى كامب دايفيد، ومن نوبل (١٩٨٨) الى الخنجر الذي جاءه من الخلف ذات ظهيرة قاتمة من خريف ١٩٩٤. يومها قال صاحب الخنجر إنه يقاصصه على رواية لم يقرأها، يعود تاريخ كتابتها الى خمسينيات القرن الماضي.
كيف صمد نجيب محفوظ في وجه الانقلابات والتغيرات التي عصفت بالمجتمع والثقافة، صموده في وجه الحقد الأصولي؟ تبدلت الموضة وانقلبت المعايير الجمالية، وتغيرت الأسماء والمراجع، وانسحب كتّاب كبار الى متحف الذكريات، فيما ظل محفوظ في مكانه، يثير الاهتمام والإعجاب والجدل الصاخب. كأنّه البطرك المطلق مالك سر الصنعة الذي يتعارك الأبناء على ميراثه، ويتنافس الأحفاد على اعلان القطيعة معه باحثين عن فضاءات جديدة تفلت من نطاق سيطرته وسلطانه... كأنه حارس معبد الفنّ الروائي. هذا الفن الذي كان يتخاصم بشأنه مع عبّاس محمود العقّاد، خليل الأوزان، فقال له يوماً إنّ الرواية «شعر الدنيا الجديدة».
«جائزة نوبل» التي طالما ردد أنّه لا يستحقها، حملت إليه التكريس، وفي الوقت نفسه جلبت عليه اللعنات. كيف ينتزع كاتب عربي اعتراف الغرب «المعادي» ــ سأل بعضهم ــ «لولا تنازلاته السياسية، وموقفه المؤيّد لاتفاقية السلام مع اسرائيل؟». وأعاد المتطرفون اكتشاف «أولاد حارتنا» ليجددوا اتهامها بالإساءة للمقدسات! لكن محفوظ لم يهتزّ، بل صمد داخل الإطار الذي بناه لنفسه، كما الأبطال الشعبيون في مخيلة العامة: بابتسامته الأبدية وبذلته المتقشفة، وطلته المطمئنة ومواقفه المعتدلة... ونظام حياته الدقيق وعلاقاته الثابتة بالناس والشوارع والفصول والأمكنة. بقي يشبه صورته بأمانة مدهشة: الموظف المنضبط، و«الرجل ــ الساعة» بتعبير أحد الحرافيش (الكاتب الساخر محمد عفيفي)، والمواطن الموالي، وصاحب الطبيعة المسالمة، المطمئنة، المتناغمة مع إيقاع المجتمع المصري.
ماذا لو أن صاحب «الثلاثية» شخص آخر، عاش متخفياً خلف تلك الصورة المتداولة عنه، خلف أسطورته الشعبيّة؟ في الحوار الطويل الذي أجراه معه الناقد رجاء النقاش، قبل سنوات من الاعتداء عليه، ثم نشر بعد محاولة الاغتيال في كتاب بعنوان «نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على حياته»، نكتشف أننا أمام رجل باطني لم يكن مجاملاً يوماً إلا في الظاهر. كأن صورة محفوظ المكرّسة، صورة الرجل المسالم، الليبرالي، المحافظ، والانسان النموذجي الذي التزم الوظيفة ٣٧ عاماً، وأحيل على المعاش كسائر الناس، تنغلق على أسرار كثيرة. في الاعترافات المتأخرة نكتشف رجلاً آخر مارس الصعلكة وعاش في العوامات وصال وجال بين النساء، وعاشر الطبقات الدنيا. نكتشف أن رائد الواقعية في الأدب المصري الحديث، لم ينقل أعماله من حكايات الآخرين، كما لم يعتمد على خيال خصب، وإنما عاشها بنفسه في أغلب الأحوال.
صورة المثقف التقليدي التي تحتلّ واجهة الحياة العامة، كان محفوظ يتسلّل بعيداً عنها عبر أنفاق ودهاليز سريّة يحفرها لنفسه، كعادة المحافظين، متلذّذاً بالخروج عن القانون السائد. فإذا به حين يلجأ إلى الأدب، ويدخل عالم الكتابة، يصبح مثقفاً حديثاً يقلق المؤسسات المستقرة والراسخة عبر شبكة من الأسرار والمفاهيم والألعاب الفنية. فعل ذلك مثلاً في «أولاد حارتنا» عندما استنجد بالأنبياء وجعلهم خلاّنه، وفي «ثرثرة فوق النيل» (١٩٦٦) حيث وصل بنقده سلوك السلطة السياسية إلى حدود النكتة السوداء وهلوسات المساطيل. وفي الحالين تعرّض محفوظ لردود الفعل العنيفة فاستقبلها بوداعة واستسلام هما جزء من تكوينه الشخصي.
هل ننسى أن جمال عبد الناصر تحالف مع الشيخ محمد الغزالي لمصادرة «أولاد حارتنا»، وأن المشير عبد الحكيم عامر كان ينوي معاقبة صاحب «الثرثرة» لولا تدخّل ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك؟
ولعلّ فن إدارة التناقضات لدى نجيب محفوظ كان وراء تفرّده عن أبناء جيله، وتمكّنه من الاستمرار كلّ هذه السنوات دون سواه من مثقفي ثورة ١٩١٩. فقد كان تكوينه الثقافي مبنياً على الجمع بين المتناقضات، في اطار معادلة توفيقية موروثة عن فكر «النهضة». ولا بدّ أن تركيبة شخصيته جعلته يعيش أكثر من حياة... على امتداد سبعين عاماً من الكتابة أنتج خلالها قرابة خمسين رواية بين ملحمية وتاريخية وفلسفية وواقعية، عدا عن القصص والمذكرات والسيناريوهات والمقالات... وصولاً الى الأحلام الميتافيزيقية التي كان يكتبها آخر أيامه...
ترى كيف سيقرأ الجيل الجديد نجيب محفوظ الذي أحزن رحيله جورج بوش شخصيّاً؟ وهل ما زالت قراءته ممكنة أصلاً، كما يمكن أن نسأل عن أدب فيكتور هوغو أو إميل زولا أو سواهما؟ سؤال آخر يضاف الى القائمة الطويلة التي يتركها لنا أبو الرواية العربية الحديثة على شكل ميراث.

نعى الرئيس حسني مبارك عميد الرواية العربية نجيب محفوظ. ووجه العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني برقيتي تعزية إلى الرئيس المصري وعائلة الأديب الراحل. وعبّر الرئيس الأميركي جورج بوش عن حزنه لوفاة «فنان استثنائي نقل غنى التاريخ والمجتمع المصريين إلى العالم». واعتبره الرئيس الفرنسي جاك شيراك «رجل سلام» و«من كبار أدباء العالم». وقررت السلطات المصرية تشييع جثمان صاحب «الثلاثية» بعد ظهر اليوم من مسجد آل رشدان في مدينة نصر، في جنازة عسكرية من المتوقّع أن يشارك فيها الرئيس حسني مبارك.