كثيرة هي الملفات التي تختلف حولها المجموعات «الإسلامية» المسلّحة في سوريا. وعلى الرغم من استمرار التحالفات بين مختلف الفصائل «الجهادية» ضدّ الجيش السوري وحلفائه غيرَ أنّ الخلافات بقيت حاضرة على امتداد السنوات الماضية، ووصلت (كما بات معلوماً) حدّ الاحتراب الذي تطوّر إلى حروب تصفية غيرَ مرّة. الصراع على النفوذ، تضارب أجندات الداعمين، والاقتتال لأسباب «اقتصادية»، وغيرها من الأسباب المشابهة كانت باستمرار «الجوهر» في أي صراع بين المجموعات مع الحرص على تغليف تلك الصراعات بعناوين مختلفة بدءاً من الاتهام بالعمالة، وصولاً إلى التكفير. وسط هذه المعمعة سيبدو غريباً أن تتوافقَ كبرى المجموعات على ملفّ بعينه كما حصل في شأن «استعصاء» سجن حماة المركزي (وقبله بسنوات في حصار سجن حلب المركزي). ومنذ بدء أحداث سجن حماة سارع عدد كبير من وسائل الإعلام، وأكبر من «الناشطين الثوريين» إلى «تسليط الضوء» على أحداث السجن تحت عناوين انسانية جعلَت منها قضيّة «استعصاء سجناء رأي». المفارقة أنّ معظم المجموعات الإسلامية هبّت للدفاع عن «سجناء الرّأي» ففُتِحت معارك، وشُنّت هجماتٌ، ولُوّح بشنّ أخرى على يد مجموعات مثل «جبهة النصرة»، و«حركة أحرار الشام الإسلاميّة»، و«جيش الإسلام» وغيرها. ومع التسليم بأنّ تاريخ الأجهزة السورية حافل في قضايا الاعتقال والمُعتقلات، لكنّ ذلك لا يعني في حال من الأحوال الركون الساذج إلى أن تنطّح «الجهاديين» لخوض معركة سجن حماة نابعٌ من أسباب «انسانيّة». وخاصّة أن الشواهد على العداء التاريخي بين هذه المجموعات وبين «الرأي» كثيرة ومستمرّة، بدءاً من قمع «النصرة» المتكرّر لتظاهرات في مناطق سيطرتها، وليس انتهاءً بـ«سجن التوبة» لصاحبه «جيش الإسلام». «الأخبار» سعَت وراء «القطبة المخفيّة»، وحصلَت عبر مصادرَ عدّة على تفاصيل لم تُنشر حول أحداث السّجن، ومُحرّكاتها، وتطوّراتها.
حكاية «الاستعصاء»

منذ شهور طويلة تزايد عدد السجناء في سجن حماة المركزي، بعدما نُقل إليه سجناء ومعتقلون من كثير من المحافظات. ينقسم نزلاء السجن إلى أقسام عدّة، ما بين محكومين جنائيّين، وآخرين تحت المحاكمة، وموقوفين، و«سجناء حق عام»، ومعتقلين لأسباب أمنية، و«سجناء قسم محكمة الإرهاب». الأخير بدوره يضم خليطاً من الانتماءات والتوجهات، ويحضر بينهم بقوة «الإسلاميّون». وكما يحصل في كثير من السجون، كان «الإسلاميون» قد نجحوا منذ وقت طويل في فرض نوعٍ خاصّ من الهيمنة داخل السجن. في النصف الثاني من العام الماضي كان هؤلاء في طور وضع اللمسات الأخيرة على خطّة «استعصاء» قبل أن تتسرّب تفاصيل بشأنها إلى إدارة السجن وتُتخّذ إجراءات احترازيّة جعلت تنفيذ الخطّة أمراً محكوماً بالفشل. قبل قرابة شهر من اندلاع الأحداث الأخيرة وصلت إلى «الإسلاميين» أنباء عن عزم السلطات على «تنفيذ أحكامٍ بالإعدام صادرة عن محكمة الإرهاب بحقّ العشرات منهم». لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن يصل هؤلاء إلى قرار حاسم بوجوب «السيطرة على السجن بمجرّد محاولة إدارة السجن نقل المحكومين بالإعدام» وبالإفادة من الخطط القديمة، مضافاً إليها إجراءات سريعة مستجدّة. وكان من بين الإجراءات الجديدة تلقّيهم عدداً من أجهزة الاتصال عبر الأقمار الصناعية «الثريّا»، أرسلتها «جهات صديقة» من خارج السجن وعبر «متعاونين من داخله». (كان «الإسلاميّون» قد نجحوا قبل وقت طويل باختراق منظومة الحراسة في السجن، واشتروا ولاء عدد من أفرادها). دقّت «الساعة الصفر» بالتزامن مع محاولة «نقل عدد من الإخوة لإعدامهم» وفقاً لأحد المصادر. كان تنفيذ خطة الاستيلاء على السجن سريعاً ومُحكماً. بدأ في جناح «محكمة الإرهاب» حيث نجح «الإسلاميون» في احتجاز عدد من ضبّاط وعناصر حراسة السجن والاستيلاء على أسلحتهم. ثمّ احتجزوا سجناء غير إسلاميين (من الجناح نفسه) واتخذوهم دروعاً بشريّة. قبل أن ينتقلوا إلى السيطرة على أجنحة أخرى. ورغم تعذّر الحصول على معلومات تؤكّد أو تنفي حيازة «المتمرّدين» لأسلحة في بدايات الاستعصاء (أي قبل الاستيلاء على أسلحة الحرّاس) غير أنّ الأمر يبدو مرجّحاً بالنظر إلى تسلسل سير الأحداث.

توسّع «الاستعصاء»

فشلت إدارة السجن في احتواء الأحداث التي توسّعت سريعاً، وباتت سيطرة السجناء على السجن أمراً وارداً. وقد انضمّ إلى «الإسلاميين» عدد غير قليل من السجناء (من جنائيّين وغيرهم). وبالتوازي مع وصول «مؤازرات أمنية» فتح خطّ تفاوضيّ مع السجناء، أملاً في الحيلولة دون تفاقم الأزمة. كان على رأس مطالب السجناء الإفراج عن 28 من نزلاء السجن معظمهم من «الإسلاميين» (15 محكوماً بالإعدام، و13 محكوماً بأحكام أخرى مختلفة). ومن بين هؤلاء عددٌ من «إسلاميي» سجن حلب المركزي نُقلوا إلى حماة بعد فك الحصار الشهير في حلب. إطلاق الـ28 لم يتحوّل إلى سببٍ لإخماد الأحداث، وعلى العكس من ذلك قدّم السجناء قائمة مطالب أخرى، أهمّ بنودها إطلاق المزيد من السجناء (ومعظمهم إسلاميّون). أمام هذه المعطيات بدأت السلطات البحث عن «وسائل أخرى لاحتواء الوضع»، فقُطعت الكهرباء والمياه عن السجن (مع ما يتضمنّه ذلك من انتهاك لحقوق السجناء بحسب المواثيق الدوليّة).

«مؤازرة جهاديّة» من خارج الأسوار

دخلت «جبهة النصرة» و«حركة أحرار الشام الإسلامية» على خط الحدث بشكلٍ مُعلن. وردّاً على قطع المياه والكهرباء عن السجن قامت «النصرة» بقطع المياه والكهرباء تباعاً عن معظم أجزاء محافظة حلب، وعن أجزاء من محافظة حماة. وخلال اليومين الأخيرين دخل «جيش الإسلام» على الخط عبر التهديد بإجراءات مماثلة في دمشق وريفها. وفيما جرى إيصال هذه التهديدات عبر «قنوات خاصّة» حرص «جيش الإسلام» على حجب هذا الجزء عن «مبادرته» التي اعلنها لـ«مبادلة سجناء حماة بأسرى النظام لدى جيش الإسلام». وحتى الآن، ما زال ردّ السلطات السورية يُشدّد على «رفض إخلاء سبيل أي مدانٍ قضائيّاً»، مع وعد بـ«تسريع إجراءات محاكمات من هم تحت المحاكمة، وإحالة من ينتظر المحاكمة إلى المحاكم المختصّة».

مفاوضات مستمرّة

مع دخول الأزمة أسبوعها الثاني، تستمرّ وساطات التفاوض عبر قنوات عدّة من بينها «منظمات إنسانيّة» محليّة، إضافة إلى وساطات «وجهاء» محليّين، وثالثة عبر «قنوات سريّة». وفيما تحاول الأجهزة السوريّة الوصول إلى حل «ينهي الاستعصاء ويعيد السجن إلى السيطرة»، يتمسّك السجناء بمحاولة إيجاد حل يُفضي إلى «إخلاء السجن بالكامل». ويتخوّف السجناء من «وجود خطط لاقتحام السجن وتكرار مجزرة سجن صيدنايا 2008»، فيما تخشى الأجهزة السورية من أنّ «الرضوخ إلى مطالب الإسلاميين قد يُمثّل بداية لأحداث مماثلة في أماكن أخرى».




«إسلاميّون» Everywhere


أحداث سجن حماة المركزي ليست الأولى التي تندلع لأسباب تخصّ سجناء «إسلاميين». الحصار الشهير الذي رزح تحته سجن حلب المركزي (المسلمية، ريف حلب الشمالي) كان قد انطلق لأسباب مشابهة، قبل أن ينجح الجيش السوري في فك الحصار قبل عامين من الآن («الأخبار»، العدد 2299). وتحت شعارات تتعلّق بحقوق السجناء، وضرورة تحريرهم تناوبت المجموعات «الجهاديّة» على حصار السجن قرابة عام ونصف عام، فيما كان الهدف الأساسيّ يتمحور حول قائمة من 48 سجيناً «إسلاميّاً» طالبت المجموعات غير مرّة (وعلى رأسها «حركة أحرار الشام الإسلاميّة») بإطلاقهم في مقابل فك الحصار عن السّجن. ورفضت السّلطات السورية «العرض» باستمرار، قبلَ أن يصبح استمرار الحصار مصدر تمويل أساسي للمجموعات التي حاصرَته ولجهات أخرى مختلفة («الأخبار»، العدد 2310).