عام 1998 بدت الصورة مثالية في العاصمة الفرنسية باريس وشارعها الاجمل الشانزيليزيه. هناك احتفل الرئيس السابق جاك شيراك مع المنتخب الفرنسي بلقبٍ نادرٍ للكرة الفرنسية هو كأس العالم الذي توّج بطولةً ناجحة تنظيمياً وفنياً للفرنسيين، الذين ما إن حصلوا على شرف استضافة كأس أوروبا 2016 حتى بدأوا يحلمون بمسيرة احتفالية مشابهة هناك تتوّج نجاحاً آخر لهم.


ومع اتفاق الجميع على أن كأس أوروبا المقبلة ستكون متعة على المستوى الفني الذي لا شك في أنه يتخطى ما نشهده في كأس العالم كون المنتخبات كلها قادمة من "القارة العجوز" حيث المستوى المرتفع لغالبيتها الساحقة، هناك تردد كبير لدى كثيرين في الذهاب الى فرنسا لمتابعة المباريات، حيث لا شك في أنه سيكون في الامر مخاطرةً بالنظر الى التهديد الكبير الذي يحيط ببلاد الرئيس فرنسوا هولاند منذ أشهرٍ عدة.


الـ «يورو» هدف إرهابي


16 مليون شخص من مختلف أقطار العالم كانوا قد تقدّموا بطلبٍ لشراء البطاقات الخاصة بالمباريات، لكن الاكيد أن من اشترى بطاقته سيفكّر أكثر من مرة قبل أن يحطّ في إحدى المدن الفرنسية لمتابعة منتخبه المفضل، إذ بعد أحداث باريس في تشرين الثاني الماضي وما تلاها من أحداثٍ مرتبطة بها في بروكسل البلجيكية، بات الهاجس الامني لفرنسا التحدي الاصعب في البطولة.



تبيّن أن الهدف الرئيس لدى إرهابيي بروكسل كان كأس أوروبا




من هنا، يمكن القول إن الرأي العام الفرنسي لا يهمه إذا ما كان منتخب المدرب ديدييه ديشان سيكسب تحديه على المستطيل الاخضر ويحمل اللقب القاري الثالث. فالتحدي المنتظر هو تلك المباراة الصعبة التي فرضها الارهاب قبل أشهر من ملاعب كرة القدم تحديداً حيث اختار "ستاد دو فرانس"، وهو الملعب الاساسي في البلاد، لتنفيذ أولى عملياته، ما يعني أن التجمعات الكروية هي هدف ثمين للمهاجمين الارهابيين.

ومع ذكر تقارير فرنسية عدة أن الهدف الرئيس لدى إرهابيي بروكسل كان "يورو 2016"، فإن الاختبار الذي أطلّ في 13 تشرين الثاني الماضي بدا أشبه بمباراة تجريبية يخوضها المنتخب الفرنسي لمعرفة قدراته. فمع عجز المهاجمين عن دخول "ستاد دو فرانس" لتفجير أنفسهم بين الحشود، يمكن القول إن الدفاع الأمني الفرنسي كان في مستواه، وبالتالي يمكن الاطمئنان نوعاً ما إلى الوضع الذي ستكون عليه الامور الامنية في الـ"يورو".

ونقول نوعاً ما، لأن البطولة لن تكون في باريس فقط بل ستتوزع مبارياتها على أكبر المدن في البلاد، ما يعني ان المهمة ستكون أثقل بكثير مع العدد الكبير من المنتخبات الموجودة في البطولة هذه المرة، ما يعني أن عدداً أكبر من المباريات سيُلعب وعدداً أكبر من المشجعين سيتقاطر الى فرنسا، وهو ما يضع الجهات الامنية تحت ضغطٍ غير معهود.

هذه الجهات تعلم أنه رغم استعداداتها للحدث المرتقب لا يمكنها أن تخرج الى العلن لتقول إن الخطر لن يكون موجوداً على الاطلاق، ولهذا السبب كانت فرنسا قد مددت فترة حالة الطوارئ التي لن تنتهي بالتأكيد قبل صفارة نهاية البطولة. وربما يمكن القول إن ما حصل في تلك الامسية السوداء في باريس كان "بروفة" وإنذاراً للامن الفرنسي قبل كأس اوروبا، التي ستعرف مشهداً أمنياً استثنائياً مع انتشار 10 آلاف جندي في شوارع البلد المضيف، وآلاف كاميرات المراقبة، وحتى فرق حماية خاصة للمشجعين المتنقلين باتجاه الاستادات.


فرنسا تدفع الثمن


فرنسا كانت قد بدأت إجراءاتها أصلاً عندما شدّدت الرقابة على حدودها حيث مُنع آلاف الاشخاص من دخول البلاد، لكنها تعلم أن الخلايا النائمة قد تستفيق في أي وقت وتهدد البطولة ومنتخباتها ومبارياتها الـ51، فشرعت في البحث عن أفضل الحلول، ومنها كان تعيين رجال أمن متخصصين في التصدي للعمليات الارهابية لحماية المنتخبات، وكل هذا رفع من كلفة الاستضافة بنسبة وصلت الى 15% بحسب تقرير اقتصادي فرنسي.



رجال أمن متخصصين بالعمليات الارهابية لحماية المنتخبات



أن تدفع الثمن مالاً أفضل من أن تدفعه دماً. هذه هي الرؤية الفرنسية الصائبة حالياً، والتي تعطي الاولوية للامن قبل أي شيء في كأس اوروبا. هذا الامن الذي قد يكون مزعجاً لكل الوافدين الى البلاد، لكنه ضرورة. فهناك ستكون الاجراءات مشددة إلى درجة أن من لا يملك بطاقة حضور إحدى المباريات سيكون مجبراً على البقاء بعيداً من الملعب لمسافةٍ معينة، بحسب ما يشير مصدر صحافي فرنسي متابع لـ"الأخبار". ويضيف المصدر نفسه أن الاوروبيين سيرون مشاهد غير مألوفة بالنسبة اليهم، وهي السلاح الظاهر لدى عناصر الامن في الشوارع، وتحديداً حيث "الأهداف السهلة"، مثل الاماكن العامة المخصصة لتجمع الجماهير أو ما يعرف بالـ"Fan Zone"، كونها تكون مشرّعة لدخول أي كان اليها، أو في محطات "المترو" والباصات والساحات العامة حيث المقاهي والمطاعم وغيرها.

بطبيعة الحال، هي مغامرة فعلية السفر الى بلادٍ ستشهد تجمعات ضخمة لمدة شهر وسط التهديدات الكبيرة التي عرفتها أوروبا أخيراً. لكنها مغامرة تستحق العناء وحتى المخاطرة بالنسبة الى الكثيرين من عشاق اللعبة الشعبية الاولى في العالم، الذين يرون فيها تحديّاً للشر وانتصاراً للحياة. لكن التحدي الاكبر سيكون لفرنسا، وهو تحدٍّ مزدوج للفوز بلقبين: لقب البطولة على أرض الملعب، ولقب بطولة الامن في وجه الخصم الاصعب، أي الإرهاب.