لم يعد الرقم مهماً. سواء فازت لائحة وزير العدل المستقيل أشرف ريفي بكافة مقاعد المجلس البلدي لطرابلس، أم اخترقت «اللائحة التوافقية» بعضو او اكثر، او اختُرِقَت بعدد من المقاعد. فالنتيجة واحدة، والخلاف على درجة حدّتها: إما أن ريفي «طحَن» تيار المستقبل والرئيس نجيب ميقاتي معاً، أو أن وزير العدل المستقيل تحوّل إلى زعيم طرابلس الاول. قبل أسابيع قليلة، كان الرجل يقول إنه أجرى استطلاعاً للرأي في عاصمة الشمال، وإن نتيجته أظهرت أن قوته الشعبية تعادل قوة خصومه مجتمعين: الحريري وميقاتي والنائب محمد الصفدي والوزير السابق فيصل كرامي والجماعة الإسلامية وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية والحزب العربي الديمقراطي ونواب المدينة الآخرين.لم يصدّق أحد ما قاله. بدت كما لو انها أمنيته. لم يصدّقها احد، إلى درجة أن بعض وسائل الإعلام كانت تتعامل مع النتائج الاولية وفق منطق يقول إن ريفي هو الطرف الأضعف في المعادلة. وهذا المنطق كان «يقينياً» إلى حد نشر أخبار تقول: «لائحة ريفي تخرق لائحة التوافق بـ19 مقعداً»! بدا كما لو أن أحداً لا يريد أن يصدّق احتمال أن يكون ريفي هو فعلاً الطرف الأقوى في عاصمة الشمال.
في النتائج السياسية لما أفرزته صناديق الاقتراع امس، تبيّن أن ريفي يحظى بدعم نصف الناخبين الطرابلسيين. ويمكن القول إن ما جرى هو الحدث الأبرز الذي تشهده «الساحة السنية» في لبنان، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري. الحريرية السياسية، بنسختها التي يقودها الرئيس سعد الحريري تُحتضر. جمهور تيار المستقبل قال كلمته امس: زعيمنا هو الرجل الذي تمرّد على زعيمنا السابق. النتيجة تصبح اكثر إيلاماً لساكن وادي أبو جميل، إذا ما أضيفت إلى نتائج الانتخابات البلدية في بيروت وعرسال، وإلى «فرار» تيار المستقبل من المواجهة الانتخابية في غالبية مناطق نفوذه. خاض التيار حتى الآن 3 معارك سياسية واضحة المعالم: بيروت وصيدا وطرابلس. خرج بجروح عميقة من جولة بيروت، ولم يستطع القضاء على خصمه أسامة سعد في صيدا، ثم تلقى ما يشبه الضربة القاضية في الجولة الاخيرة من مباراة ملاكمة. ما يعمّق أزمة الحريري انه لم يكن وحيداً. هو وحلفاؤه الطرابلسيون يملكون ثروات يصل مجموعها إلى أكثر من ثمانية مليارات دولار، فيما ريفي يواجه وحيداً. والاخير وزير مستقيل، وموظف سابق برتبة مدير عام، في مقابل ماكينات خدماتية هائلة تعمل في المدينة منذ أكثر من عقدين، ويرعاها وزراء ونواب ورئيسا حكومة سابقان ومجالس وجمعيات. لا شك أن رعاة اللائحة التوافقية دفعوا ثمن صمتهم السياسي منذ أشهر، منذ أن قرروا تجاهل ريفي، وتركه يسرح ويمرح وحيداً في الساحة الاعلامية الطرابلسية، يقدّم للناس خطاباً سياسياً شعبوياً، فيما هم صامتون. ولا شك أيضاً بأنهم دفعوا ثمن قلة كفاءتهم الإنمائية، كما قرارهم بعدم مواجهة الخطاب المتطرف الذي مثّل ريفي احد رموزه، والاكتفاء بتكرار خطاب اجوف عن «الاعتدال». ولا شك، أيضاً وأيضاً، أن السعودية، راعية التوافق الطرابلسي، تراقب ما يجري عن كثب. تبقى إشارة اخيرة لا بد منها، لما تحمله من دلالات، رغم عدم وجود أي صلة مباشرة بينها وبين انتخابات طرابلس: وصل الرئيس سعد الحريري منتصف الليلة الماضية إلى الكويت حيث يلتقي أميرها وعدداً من المسؤولين.
بشائر نتيجة الاقتراع في عاصمة الشمال كانت ظاهرة في شوارع المدينة طوال يوم امس، لكن من دون أن يلتفت اليها احد. منطقة باب التبانة، التي أُجبِر أهلها على طلاء منازلهم بالأبيض والأزرق، شلحت عنها رداء تيار المستقبل. معظم المحال تحولت إلى مراكز إنتخابية. الصور «دُرزت» على الحيطان حتى كادت تُنافس عدد الشظايا. صخب مكبرات الصوت والأناشيد يملأ المكان، معظمها تابع لريفي. عند كلّ مفترق، مدرّعة للجيش. عناصره مدججون بكامل أسلحتهم. «عيون» الأجهزة الأمنية «مفتحة منيح حتى ما حدا يعمل شي بس تطلع النتيجة». درج ملوّن طويل يفصل بين باب التبانة و«ضلعها» جبل محسن. أبناء الجبل لم يكونوا مهتمين بالانتخابات، بعدما تجاهلتهم «اللائحة التوافقية» المسماة «لِطرابلس». لم يؤخذ برأي المجلس الإسلامي العلوي، وتمنّعت كل القوى عن وضع يدها بيد الحزب العربي الديمقراطي تحت حجة أن قائده رفعت عيد مطلوب إلى العدالة، فترك الحزب الحرية لمناصريه بالانتخاب للبلدية أو المقاطعة. الاقتراع هو «لصالح المرشحين المنفردين إلا مرشحي التبانة بعد أن حاولنا مدّ اليد لهم لكنهم رفضوا». الجهود كلّها صُبت لإنجاح المختار المدعوم من الحزب الأكثر نفوذاً في «البعل». «هون ممانعة. الأكل منقوشة والعصير رخيص»، يقول أحدهم في مركز العربي الديمقراطي، ممازحاً. الكلام هنا بحق من يُفترض أنهم حلفاء، أمثال الوزير السابق فيصل كرامي، قاسٍ. هو الذي فضل التحالف مع «الكبار»، نافضاً يديه منهم، كما يقولون. «نحنا ما عنا حليف إلا حالنا»، تقول المحامية هيام عيد، عمّة رفعت. «القهر» يدفعها إلى التعبير: «هلّق صرنا حزب مجرم وكلّن (النائب الراحل) علي عيد هوي يللي عملهم».
لم يصدّق أحد كلام ريفي عن استطلاعات الرأي التي أظهرت ان قوته تعادل قوة جميع خصومه

الإنتخابات البلدية في طرابلس لا تُشبه أي منطقة أخرى. كلّ العوامل تختلط فيها لتُنتج أنموذجاً فريداً. شارع رياض الصلح يغص بأشبال اللوائح المتنافسة الذين تولوا مهمة توزيع القوائم الإنتخابية، ومن يرفض يرمونها له من الشباك. الحضور الأبرز كان لـ«حراس» ريفي الذين «لم ينعسوا». صور عملاقة وأناشيد تُمجد اسمه، دفعت الكثيرين إلى السؤال عن مصدر الأموال من دون الحصول على إجابة مباشرة. وزير العدل المستقيل لم يكن وحده. كان خصومه، وقبل إقفال صناديق الاقتراع، يؤكدون أن حزب القوات اللبنانية سانده إعلاميا وماديا. الدعم القواتي هو ردّ في السياسة على الرئيس السابق سعد الحريري. إضافة إلى ريفي، برز حضور «الأحباش» بقمصانهم الصفراء ومندوبيهم الذين وصل قسم منهم من العاصمة، «نعرفهم من لهجتهم البيروتية». في مقابل ضعف حضور مندوبي بقية مكونات لائحة «لِطرابلس». المدينة الثانية في لبنان هي «مدينة الناس» الذين غصت بهم الساحات وافتقدتهم قاعات التصويت التي بلغت نسبتها 26,9٪. بقي «الأفندي» كرامي يُراهن على هذه النتيجة. يجلس في القاعة المجاورة لقصر عائلته في «البلد» وإلى جانبه زوجته. لا تشغله إنتخابات طرابلس بقدر ما يهتم بانتخابات «المصيف»، سير الضنية، حيث يُنازل النائب أحمد فتفت. على مقربة منه، وفي مكتبه المقابل لساحة النور، يجلس نائب رئيس مؤسسة الصفدي، أحمد الصفدي، الذي تولى مفاوضات اللائحة التوافقية بالنيابة عن عمه النائب محمد الصفدي. فخور بأنه تمكن في 15 يوماً من تشكيل ماكينة «مُلتزمة ومُنظمة»، مُعتبراً إياها الأكفأ على كافة المستويات. أما القراءة السياسية فمؤجلة إلى ما بعد صدور النتائج.
يصل الرئيس نجيب ميقاتي إلى قصره في الميناء بعد الإدلاء بصوته وبتصريحه الذي اعتبر فيه أنه حين يكون «والرئيس الحريري جنباً إلى جنب يمكننا أن نغير وأن نواجه كل التحديات القائمة على الساحة اللبنانية، عندما نكون معاً حتماً سنكون أقوى» ما أثار استياء عدد من الحلفاء. اضطر أن يوضح أنه كان يرد على سؤال مُحدد ولم يقصد تغييب أحد. «فارس (الجميّل). في الخطاب ليلاً علينا ألا ننسى أحدا»، يوصي ميقاتي مستشاره الإعلامي. كان الرئيس الأسبق للحكومة يتحدّث عن خطاب الفوز الذي لم يتحقق. نسبة الإقتراع المتدنية في ساعات النهار أجبرت ميقاتي على إجراء الاتصالات بنفسه، موصياً «ما تفوتو بدفع مصاري». الكل هنا يُشدد على الإلتزام: «متل ما هيي».
أمس، اجتمع في طرابلس كلّ من ميقاتي والحريري وكرامي والصفدي لإعادة رسم خريطة طرابلس السياسية، بالتعاون مع النائب روبير فاضل والجماعة الإسلامية و«الأحباش». لا يُمكن جمع النقاط قبل صدور النتائج النهائية، ولكن النتائج السياسية اتضحت ليلاً. بات النائب السابق مصباح الأحدب خارج الملعب الطرابلسي والوطني بعد أن أصر على الترشح إلى الانتخابات البلدية رغم إدراكه لصعوبة الخرق. أما أشرف ريفي فشبّهه بعض سياسيي المدينة أمس بمؤسس «حركة 24 تشرين» فاروق المقدم (نهاية ستينيات القرن الماضي) الذي اتخذ من باب التبانة ممرا لمحاولة السيطرة على قلعة طرابلس ولم يستطع يوماً النجاح في السياسة. لكن حتى في هذا التشبيه طوته صناديق الاقتراع. ما فعله ريفي أمس يُشبه إلى حد بعيد تجربة حركة التوحيد في النصف الأول من الثمانينات، يوم بسطت سيطرتها على عاصمة الشمال، ولم تخرج من قبضتها بعد نحو عامين سوى بحرب ضروس خاضها الجيش السوري وأحزاب لبنانية. فما الذي سيفعله خصوم ريفي لمواجهته اليوم؟