مصر: عودة إلى التديّن الشعبي

بعد شغور الإسلام السياسي ومناورة السلطة مع السلفيين: زحف نحو التديّن الشعبي؟

  • 0
  • ض
  • ض

نجحت السلطات المصرية بأذرعها الدينية في ملء جزء كبير من الشغور الذي أصاب الناس بعد إخفاق تجربة الإسلام السياسي والخلاف بين الإخوانيين والسلفيين. لكنّ الارتداد الأول لسقوط محمد مرسي كان عودة الناس إلى تديّنهم الطبيعي الذي خالطته تجربة الإسلام السياسي

راجت مقولة «الشعب المصري متدين بطبعه»، ككليشيه في الثقافة العربية، وأضاف إليها كتاب مصريون أن هذا الشعب ذو الغالبية المسلمة، تغلبه العاطفة في تقييم المواقف حتى على حساب مصالحه، بالاستناد إلى ما حدث بعد «ثورة يناير» في دعم مشروع الإسلام السياسي وإيصاله إلى الحكم، فضلا عن ركائز أساسية كالاهتمام بالقضية الفلسطينية وأنواع التكافل الداخلي والعمل الاجتماعي، لكن هل بقي هذا قائما؟

أتى استطراد الأحداث بعد «يناير» وانزواء العاطفة قليلا، بسبب ممارسات وصفت بالفجة تارة في إدارة الدولة من جانب الإسلاميين وخطابهم الاستقطابي، وتارة أخرى من جانب الجيش وخطابهم التحريضي ضد خصومهم. هنا تحديداً انكشف الغطاء عن ماهية مسلّمة التدين، وبدا أن المحرك الداخلي للمواطنين ليس سوى مخزون إرثي مرجعه تفاصيل المكون الديني الذي تربوا عليه، وهو الوقود لقيم ولمفاهيم اجتماعية وحتى سياسية، وهو أمر موجود لدى غير المتدينين بالمعنى الشكلي أيضا.
مفترق الطرق أمام حالة التدين والالتزام العامة جاءت بعد إخفاق «الإخوان المسلمين» في اختبار الحكم، وخاصة أنها الجماعة الأكبر عديدا والأقوى إعلاما واقتصادا مقارنة بالحالة السلفية أو الصوفية والتيارات الإسلامية الليبرالية. ففقدت قطاعات كثيرة من الشارع المصري الثقة في المنتج الإسلامي من خطاب مطروح وسياسات وأداءات غلب عليها الواقع البدائي البعيد عن الحرفية، بل شاع أنه ثمة خلاف قائم بين الإسلام السياسي والمفهوم الشعبي للتدين.
برغم تواتر ما يسمى «التدين الفطري» لدى المصريين، يوضح الباحث في الحركات الإسلامية ماهر فرغلي، أنه لا يؤمن بهذا المسمى، لأنه يرى أن الدين «طريق للوصول إلى الله»، لكن دخول «الإخوان» (محظورة حاليا) وحزب «النور» السلفي، على خط الاتهامات المتبادلة بينهما في ظل تباين المواقف السياسية وسير السلفيين وراء السلطة في مواجهة الجماعة، يوصل إلى أن خطاب التيارين الإسلاميين بعيد عن المفهوم الديني المتعارف عليه لدى الجمهور المصري.


نزح كثيرون عن
مظاهر التدين الموصومة بالإسلاميين


والملاحظ أنه بعد سقوط «الإخوان» والخلاف الداخلي بينهم من جهة، والخلاف مع باقي تيارات الإسلام السياسي من جهة أخرى، فضلا عن تجنب السلطة محاربة المظاهر الدينية واستنادها إلى مؤسسة الأزهر، نزح مصريون كثيرون عن مظاهر التدين الموصومة بالإسلاميين منذ القدم، كاللحية والنقاب، وهو ما عبّر عنه فرغلي بقوله، إن «التدين لا علاقة البتة له بعجز الاسلاميين عن الاستمرار في السلطة، لكن المصريين فقدوا الثقة في الطريقة التي قدم بها هؤلاء (الإسلاميون) الإسلام إليهم».
توظيف الدين واستهداف الفقراء
ثمة وجه آخر للمشكلة، فوفقا للواقع الاقتصادي الصعب لدى جزء كبير من المصريين، بدأ الشارع يذهب إلى «مراضاة» قطاع من الإسلاميين، وخاصة «الإخوان»، رغبة في الحصول على الدعم المالي والغذائي المصروف من الجماعة للفقراء في القرى والمدن الصغيرة. ورغم إشراف الجماعة على ما يقارب 700 ألف أسرة فقيرة، عبر الجمعيات الخيرية التابعة لهم في كل المحافظات (أرقام تقديرية)، برهنت الإطاحة بمحمد مرسي من الرئاسة على أن هذه الأسر كانت عينها في المقام الأول والأخير على الدعم المالي، وليس كدوائر إسناد حقيقية للجماعة في مواقفها السياسية، وهو ما كشف وقوف «الإخوان» بكوادرهم الفعليين وحيدين أمام السلطة في معركة العودة إلى الحكم مرة أخرى.
أحد المعنيين بالحالة الدينية لدى المصريين، وهو إمام وخطيب في أحد المساجد في الصعيد، يدعى محمد علي سالم، قال إن حالة التدين عند المصريين تنبع تفصيلاتها من هرب المواطنين من الواقع الأليم الذي يعيشوه.
ورغم محاولة الإسلاميين وهم قابعون في السلطة تقديم بديل اقتصادي بتوظيف أموال الزكاة في معالجة أزمات اقتصادية، فإنهم في نهاية المطاف وقعوا أسرى للنظام المعقّد الذي عايشته الدولة المصرية عقودا طويلة.
ويشرح سالم فكرته بأن «قطاعا كبير من المتدينين هدفهم الأساسي كان إشباع العاطفة الدينية التي تبعدهم مرحليا عن التألم من الواقع الاقتصادي الصعب، وهو ما يجدونه في دروب المساجد والتعبد... فشل الإسلاميين في السلطة دفع البعض إلى التبرؤ من الخطاب الإسلامي كلياً».
في المقابل، يوجد رأي مغاير يذهب إلى أن الشعب المصري يمتلك مقومات التدين الفطري، لكن الزخم السياسي أدلج كثيرين ودفعهم في أتون توظيف الدين لمآرب سياسية، وهو ما يذهب إليه الأكاديمي في جامعة «حمد بن خليفة»، معتز الخطيب، الذي شرح أن هناك جمهورا محدودا «انغمس في تصورات الإسلام السياسي عن الدين، وهو الشريحة التي تكون لديها تشويش عن الإسلام، بل ذهب بعضهم إلى الإلحاد». ويذهب الخطيب إلى أن أصحاب «التدين السياسي» هم الذي يشهدون تحولات حقيقية واختلالات، أما أصحاب «التدين الشعبي» فأمرهم مختلف لأنهم بعيدون عن التناقضات في الخطاب والفكرة.
استخدام السلطة خطاب التدين
صراع الدولة مع الإسلاميين دفعها إلى محاولة الاستفادة من مفردات خطابهم الديني لمجابهة تصوراتهم عن الدين ثم استغلال ذلك في تشويه سمعتهم السياسية، وهنا يقيم الخطيب موقف الدولة، شارحا: «الدولة القومية الاستبدادية تنبهت إلى أهمية الدين في معركتها مع الإسلام السياسي، لذلك احتكرت صياغة التدين عبر موظفيها في المؤسسات الدينية والإعلام. وهي تحرص دوما على صياغة تدين يدافع عن خياراتها السياسية».
لكنّ محمد عفان، وهو أستاذ العلوم السياسية والباحث في الحركات الإسلامية، يرى أنه يجب من الأساس التفريق بين التدين الشعبوي والتدين الأيديولوجي، مضيفا أن الأول لا يعبأ كثيرا بتفاصيل الصراع التي يتشابك فيها التدين الأيديولوجي مع الدولة.
وحضر خطاب رابعة العدوية، الذي وصفه البعض بالتطرف، في تقييم عفان لما يسمى «التدين المشاع لدى المصريين»، مشيرا إلى أن السلطة التفتت إلى شعبوية الخطاب الديني وتأثيره في الرأي العام، وهو ما دفعها إلى تعبئة المناخ العام ضد الإسلاميين بالارتكاز إلى المفاهيم نفسها التي يمتلكها الخطاب الإسلامي... أقل مثال هو ترويج ما يسمى جهاد النكاح لنزع القدسية عن خطاب الإسلاميين وتشويه سمعتهم لدى قطاعات كبيرة».
الأمر الخطير أنه مع غياب ما كان يمثله الخطاب الإخواني من وصفه بالوسطية، ومع التحاق «النور» بالسلطة وغياب الأخيرة عن المساجد بعد استحواذ الدولة على جل المساجد وإخضاعها لإشرافها، بدت الساحة منفتحة على الخطاب «الداعشي» ولجوء العشرات من شباب الحركات الإسلامية إليه، وذلك كأنه ملاذ أخير بعد إخفاق التجربة الإسلامية وعجزها عن تقديم بديل جامع لطموح شباب «يناير».
ويبدو أن صراع المنبر والكرسي ذهب بقناعات شرائح كبيرة من المصريين نحو نبذ المفهوم الأيديولوجي للتدين، وانغماس الناس مرة أخرى في التعبد المجرد من النوازع السياسية، مع الابتعاد عن خلط المفهوم الديني للسياسة في العمل العام، وهو ما يمكن وصفه بعلمانية شعبية (لا سلطوية) غير معلنة، تخفي وراءها حنيناً إلى الخطاب الإسلامي، قد يظهر في مرحلة لاحقة.


مستقبل الخطاب الداعشي

وفّر نزول الجيش في الساحة السياسية المصرية بالاضافة إلى الواقع الأمني في سيناء، حالة من الغطاء الشعبوي لخطاب تنظيم «ولاية سيناء»، بالإضافة إلى خطاب تنظيم «القاعدة»، المنادي بالانتقام من الجيش. ومع غياب التأثير الإخواني مقابل حضور الخطاب السلفي المهادن للحكومة، حضر الخطاب الداعشي كبديل قوي ومنافس. لكن القطاعات المعنية بالتجاوب مع الخطاب الداعشي في مصر، لا يجوز سحبها على الشارع المصري كله، وخاصة مع انشعال الناس في توفير لقمة العيش وحياة هادئة بعيدة عن المشكلات السياسية
وقد تكون حالة التجاوب مع خطاب «داعش» و«القاعدة» حالة مؤقتة داخليا تغذيها الأحداث الداخلية، ولكنها ستنخفض ما دام الصراع بين الإسلام السياسي والسلطة يتراجع، ولكن انفراط عقد «الإخوان المسلمين» يمثل فرصة جيدة لـ«ولاية سيناء»، التي تزيد بطريقة أخرى العداء بينها وبين المصريين بسبب الاستهداف المتواصل للجنود والشرطة في سيناء.

  • خطاب التيارات الإسلامية ليس انعكاساً عن المفهوم الديني المتعارف عليه لدى المصريين (آي بي ايه)

    خطاب التيارات الإسلامية ليس انعكاساً عن المفهوم الديني المتعارف عليه لدى المصريين (آي بي ايه) (أي بي أيه )

0 تعليق

التعليقات