كيف يمكن لمسألتين متناقضتين في المطلق أن تحصلا في بيروت في آن واحد؟ أن يلتقي سياسيون أخصام أو أعداء في أجواء من الفرح حتى الحبور؟ وأن يعجز ملعب رياضي عن إنجاز مباراة مفترضة رياضية، بين جمهورين من طرفين يفترض أن يكونا حليفين؟ ثمة إشكالية غريبة في المسألة، وفيها الكثير من خفايا أزماتنا وعورات كوارثنا.طبعاً ثمة جوانب عدة لفهم تلك الظاهرة وتحليلها. أولها وأكثرها بساطة، أن للمناسبات الاجتماعية في لبنان منطقها وتقاليدها واعتباراتها وأعرافها. فهي لا تخضع لحسابات المواقف واصطفافات السياسة. ولذلك يمكن في شكل عام لأي مناسبة كهذه أن تجمع الأضداد والأخصام، من دون أن يكون لذلك أي معنى أو بعد أو مغزى. ما خلا خضوعنا جميعاً لقواعد السلوك الاجتماعي اللبناني. علماً أنه لمزيد من التدقيق، يتذكر اللبنانيون طبعاً أن استثناءات عدة كانت تسجل على صعيد تلك القاعدة. في فرح أو حتى في حزن. كأن يقاطع سياسي آخر، أو أن ترتسم ظروف غياب في مناسبة ما. هكذا مثلاً غاب ميشال عون عن تعزية ميشال سليمان. أو دُفع إلى الغياب عن تعزية آل الجميل باستشهاد بيار. غير أن هذه الاستثناءات رغم وجودها، وبسبب ما يرافقها عادة من ضجة أو سؤال، تظل الدليل على القاعدة نفسها، أن اللبنانيين يجتمعون في مناسباتهم، وأن أفراحهم وأحزانهم تجمع أضدادهم. وهو التفسير الأكثر تبسيطاً وتسطيحاً لشق التلاقي بين السياسيين وسط عداء المحازبين، من الإشكالية المطروحة.
جانب آخر للمسألة، يعرفه اللبنانيون لماماً، ويدركه العارفون بدقة. ألا وهو أن الطبقة السياسية اللبنانية في غالبيتها، وعلى مختلف اصطفافاتها وخنادقها، تشكل شبكة واحدة هائلة مترابطة ومتداخلة. وذلك على ثلاثة مستويات على الأقل. أولها مستوى القرابة والنسب العائلي. ذلك أن عدداً كبيراً جداً من السياسيين اللبنانيين، من مختلف التوزعات، هم أقرباء لبعضهم البعض. حتى أن البعض يؤكد أنه يمكن لأي خبير في السلالات أن يربط أي سياسي لبناني بأي سياسي آخر، عبر عدد قليل جداً من حلقات القربى العائلية. طبعاً ضمن كل طائفة من قبائلنا الروحية. نظراً إلى وضعنا العشائري التعددي دينياً. والذي يشكل عاملاً آخر أو تأسيسياً لتخلف نظامنا السياسي طبعاً. لكن يظل ثابتاً أن قسماً كبيراً من هؤلاء الذين نراهم أحياناً يتناظرون أو يتصارعون أو يتنافسون، هم أقارب على درجات مختلفة من علائق المصاهرة وتناسل الأفخاذ داخل تركيبتنا الاجتماعية السياسية.
المستوى الثاني الذي يشكل شبكة الترابط بين طبقتنا السياسية، هو عامل المصالح. فما يبدو في الظاهر أن السياسة تفرقه، وما قد لا تكون القرابة العائلية قد جمعته مباشرة أو مداورة، تجمعه مصالح اقتصادية انتفاعية حصصية داخل نظامنا السياسي الريعي، ذات الاقتطاعات المالية المرتبطة حصرياً بالسلطة. وهذا العامل قائم بشكل كبير وحاسم، داخل ما يشكل قطاعاً عاماً في البلد، أو حتى داخل القطاع الخاص. فما من مصرف تجاري كبير إلا ويلتقي داخل حلقة مالكيه أخصام. وما من قطاع اقتصادي أساسي إلا وتتشابك فيه مصالح عدد كبير من السياسيين من جهات متباينة. مما يجعلهم جميعاً أجزاء من مفهوم مصلحة مشتركة غريبة عجيبة في ما بينهم. يبقى مستوى ثالث لا يعرفه إلا أبناء حلقة الصالونات السياسية المغلقة، وهو أن زعماءنا، في غالبيتهم أيضاً، إذا لم يكونوا أقرباء، وإذا لم يكونوا مرتبطين بمصالح اقتصادية مشتركة، تربطهم صداقات اجتماعية لصيقة. حتى في أشد لحظات عدائهم العلني، وحتى في أزمنة حروبهم، كانوا خارج الضوء والإعلام والمعارك، حريصين على مجتمع صداقاتهم الصالوناتية.
لكن في المقابل، ما الذي يفسر عداء الناس لبعضهم، واستشراس المحازبين ضد بعضهم من تحت، في شكل متزامن مع تلك الشبكة العلائقية الحميمة من فوق؟ التفسير الأول والأبسط في هذا المجال، والذي يحلو للبعض استخراجه دوماً، هو نظرية المؤامرة بين السياسيين على حساب المواطنين. نظرية أن الزعماء متآمرون في ما بينهم على ناسهم في كل توزعاتهم. وأن هذه المؤامرة مربحة للجميع أو مريحة لغالبية ساحقة كافية لاستمرار المؤامرة طيلة عقود طويلة كما يؤرخها محبوها.
لكن نظرية المؤامرة هذه لا تبدو كافية في زمن العولمة وثورة الاتصالات وعصر التواصل الاجتماعي وعالم الدوت كوم. إذ كيف يمكن لشاب يحترف التويتر والفايسبوك وأخواتهما، ويطلع على آخر أخبار جون سنو قبل عرضه، ويعرف طول ميسي وقياس حذائه ونوعه وشريطه ... أن يظل مأخوذاً عن معرفة وعلم ودراية، بمؤامرة أن زعيمه يستغله، فيستمر هو في معركته على الملعب، ليظل الزعيم حاكماً مع خصمه في دولة الصالونات؟ ثمة شيء ناقص ههنا. الأرجح أن له تفسيراً وحيداً. إنه حالة الانفلاع الطبيعي العفوي أو حتى الجيني والخلقي، في كل واحد منا. أكان زعيماً أو مواطناً عادياً. كأن في كل منا شخصين. واحد يسيره وجدانه الفردي كإنسان فرد. وآخر يسيره وجدانه الجماعي كعنصر في قبيلة. الفردي فينا متمدن متحضر يسكن في صالوناتنا ويقيم في مناسباتنا الضيقة ويحيا في "إتيكيت" قشرتنا الثقافية. بينما الجماعي فينا قبلي عشائري يحمل عصبية الماضي وعصبوية الطائفة ويقاتل لأجلها ويقتل ويُقتل... حتى في مباراة رياضية.
في كل الأحوال السياسي مطمئن. ما دامت الانفلاعات في ديارنا عامرة!