دخلت بيروت قبل دقائق ساعة السكينة اليومية التي تعيشها عندما يحين موعد الإفطار نهاية الايام الرمضانية. تُشبه مدينة مهجورة إلا من أرواح أهلها، ورائحة الطعام المتسللة من المنازل. يقطع سكون الشارع بين الحين والآخر صوت سيارة مستعجلة، إما للوصول إلى مائدة الطعام، أو أن فراغ الطرقات أغرى السائقَ ليُظهر عزم محركه. الساعة تشير إلى الثامنة و10 دقائق مساءً. دوّى الانفجار في فردان. هو أشبه ما يكون بالصوت الناجم عن غارة طائرة. هكذا بدا للموجودين في الحي. أول ما يتبادر إلى الذهن مبنى وزارة الداخلية. ربما هو المستهدف. لكن النزول إلى الشارع يكشف الدخان المتصاعد من داخل المبنى الرئيسي لبنك لبنان والمهجر. رجال الأمن المتوترون يتوزّعون على مداخل المصرف. فالباب الرئيسي للبنك فُتِح بعزم الانفجار الذي وقع في الشارع الفرعي الملاصق للمصرف، من الجهة الجنوبية. هو الشارع الذي يفصل بين «لبنان والمهجر»، ومدرسة رينيه معوّض. تحمل المدرسة اسم رئيس الجمهورية الذي اغتيل قبل أكثر من ربع قرن، «على رأس الشارع» نفسه. من اللحظة الأولى، أمكن مَن تابع مسلسل التفجيرات التي وقعت في لبنان أن يحسم بأن الانفجار ناجم عن عبوة ناسفة يقل وزنها عن 10 كلغ من مادة الـ»تي أن تي». فالانفجار صغير، نسبة إلى ما شهدته البلاد في السابق، وآثاره على المحيط ليست بضخامة الصوت. يُسأل رجال الأمن في المصرف عن إصابات في صفوفهم، فيؤكدون أن الأمر يقتصر على شخص واحد جروحه طفيفة نتيجة تناثر الزجاج، علماً بأن رجلَي أمن يتحركان ليلاً، وبصورة يومية، منذ سنوات، تماماً في المكان الذي وقع فيه الانفجار. لكن يوم أمس كان الشارع خالياً منهما، بسبب موعد الإفطار.
جنبلاط: مسلسل التفجير سيكون أخطر على لبنان من اغتيال الرئيس رفيق الحريري
سياسياً، وقع التفجير في لحظة اشتباك بين بعض المصارف (وعلى رأسها «لبنان والمهجر») من جهة، وحزب الله من جهة أخرى، على خلفية قانون العقوبات الأميركي بحق الحزب. وهذا الاشتباك يجري كسفينة بلا ربّان. فالبلاد بلا رئيس، والحكومة نفضت يدها من الازمة، وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة عاجز، حتى الآن، عن الإمساك بالعصا من وسطها. أما أمنياً، فالانفجار دوّى بعدما أوقفت الأجهزة الامنية خلايا تابعة لتنظيم «داعش» الإرهابي، أقرّ أعضاؤها بالإعداد لتنفيذ هجمات في بيروت، ضد مؤسسات غير عسكرية، وأماكن يرتادها المدنيون. وقبل الانفجار بيومين، عمّمت استخبارات الجيش برقية على مختلف الاجهزة الأمنية، تقول فيها إن لديها معلومات عن تخطيط «جبهة النصرة» للقيام بأعمال إرهابية تستهدف منطقة بيروت ــ الحمرا. أما الأهداف المحتملة فهي: دوريات الجيش وشخصيات سياسية وأمنية تتجول من دون مواكبة، «وذلك بواسطة عبوات لاصقة». وبناءً على معلومات الجيش، عمّمت بعض السفارات (الكندية مثلاً) والأمم المتحدة على موظفيها ورعاياها ضرورة أخذ الحيطة والحذر، وعدم التوجه إلى المنطقة المذكورة.
وكما في كل مرة، بدأت موجة «الاتهام السياسي»، مستفيدة من الأجواء السياسية التي سبقت الانفجار. لكن هذا الاتهام بقي محصوراً إلى حدّ بعيد في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. رئيس مجلس إدارة بنك «لبنان والمهجر» سعد الأزهري بدا أمس على قدر الحدث، فأتى تعليقه عليه هادئاً، قائلاً: «لا نتهم أحداً بتفجير اليوم الذي استهدف المصرف وننتظر التحقيقات». النائب وليد جنبلاط كان أكثر المستشعرين للخطر، فرأى أن «لبنان دخل في مسلسل تفجيرات يستهدف القطاع المصرفي»، معتبراً أن «إسرائيل هي أول المستفيدين منه، وحزب الله متضرر». ورأى أن «هناك جهات تريد ضرب النظام المصرفي اللبناني»، طالباً من القطاع التماسك. وفي نقاش بعيداً عن وسائل الإعلام، قال جنبلاط لأحد سائليه، إن هذا الحدث، فيما لو تحوّل إلى مسلسل، فسيكون أكثر خطورة على البلاد من اغتيال الرئيس رفيق الحريري!
بدوره رأى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أن «الهدف من التفجير ليس إنزال أضرار بشرية، بل إرسال رسالة في جوّ العقوبات الأميركية، لكن كل هذا لا يخوّلنا الجزم بأي استنتاجات»، داعياً الأجهزة الأمنية إلى «قطع الطريق على أي استنتاجات من خلال كشف المرتكبين، وإلا يكون هناك تجهيل للفاعل». واستنكر الرئيس سعد الحريري الانفجار، مؤكداً أن «لبنان سيبقى يواجه حتى النهاية عمليات التفجير والقتل». وأكد أن «معركتنا مع الإرهاب والتفجير وعمليات القتل والاغتيال والرسائل المباشرة وغير المباشرة طويلة».
أما وزير الداخلية نهاد المشنوق فقد أشار إلى أن «الانفجار ليس له علاقة بالمعلومات التي كنا نتكلم عنها مسبقاً، وهو خارج سياق التفجيرات التقليدية التي كنا نشهدها». ودان الوزير السابق عبد الرحيم مراد الانفجار، معتبراً أنه «محاولة دنيئة لإرباك الساحة الوطنية عبر توجيه أصابع الاتهام لأطراف متضررة من بعض الإجراءات المصرفية، وهي محاولة هدفها تعميق الأزمة». ووضع الوزير السابق فيصل كرامي التفجير في إطار «استهداف لبنان»، معتبراً أن «الثابتة الأساسية التي ننطلق منها لمواجهة المرحلة هي أن ما يتعرض له لبنان مؤخراً لا يخدم سوى إسرائيل».




كاميرات المراقبة سيّئة!


أكّدت مصادر أمنية لـ«الأخبار» أنّ زنة العبوة لا تزيد على خمسة كليوغرامات وُضِعت في حوض على حائط مبنى مصرف لبنان والمهجر، في زاوية ميتة لا يُمكن لكاميرات المراقبة تحديد هوية واضعها. وكشفت المصادر نفسها أنّ كاميرات المراقبة رصدت «سيارتين يُعتقد أنّ إحداها من نوع هيونداي لون بيج، توقفت أمام المبنى قبل دقيقة من وقوع الانفجار، ويُشتبه في أن شخصاً ترجّل منها ثم عاد إليها لتنطلق مسرعة، وقبل أن تصل إلى نهاية الطريق، دوّى الانفجار. غير أنّه لم يكن بالإمكان تحديد ملامح المشتبه فيه. ورغم أن مصادر من مصرف لبنان والمهجر أبلغت «الأخبار» أن كاميرات المراقبة موزعة بطريقة احترافية تُمكّن من تحديد هوية المارة، قالت المصادر الأمنية إنّ صور الكاميرات سيئة، ولا تسمح بتحديد معالم أو هوية المشتبه فيهم. وعلمت «الأخبار» أن الاجهزة الامنية بدأت منذ ليل أمس «سحب» تسجيلات كاميرات المراقبة في كل الشوارع المحيطة بمسرح الجريمة، لمحاولة الحصول على معلومات إضافية عن المشتبه فيهم.
وذكّرت المصادر الأمنية بمسلسل العبوات الناسفة التي شهدتها الضواحي الشرقية والشمالية لبيروت عام 2005، والتي كانت تنفجر من دون أن توقع إصابات في أغلب الأحيان. ولفتت إلى أنه في حال كان منفّذو العملية هم من «الهواة»، فسيُكشَفون بلا شك.