ساعات صغيرة مصفوفة جنباً إلى جنب على الحائط لا تكف عن الدوران. عقاربها تدور أسرع من المعتاد. الحركة داخل هذا المبنى الزجاجي في وسط بيروت هادئة نسبياً. من المدخل وصولاً حتى الطبقة العاشرة، لا إجراءات أمنية استثنائية. في أقصى الرواق يقع مكتب الرئيس نجيب ميقاتي. يُتابع سير أعماله في مقابل السراي الكبير، ومنزل الرئيس سعد الحريري. لكنه ما إن يتخلى عن "كرسيّه"، حتى يدير ظهره لوادي أبو جميل وللمبنى العثماني الذي تُدار منه شؤون البلاد. ينتقل "الحاج نجيب" إلى الكنبة البنية، رافعاً الكلفة. كتاب أسماء الله الحسنى، الموضوع على يساره، مفتوح على صفحة «الحليم». يصمت قليلاً قبل أن يقول: «نعم، قلتُ إنني أُفضّل أن أخسر مع سعد الحريري على أن يُقال إني أسقطت ابن رفيق الحريري في طرابلس. لا أبني زعامتي على أنقاض غيري». والتواصل مع «ابن الشهيد» لم ينقطع، «تواصلنا أكثر من مرّة بعد الانتخابات». صفحة الانتخابات البلدية طُويت بالنسبة إلى رئيس الحكومة السابق، وهو اتصل بوزير العدل أشرف ريفي «لأهنّئه» بحلول شهر رمضان. لا مشكلة مع الأعضاء الفائزين من لائحة ريفي، فهم «غير بعيدين عني، والعديد منهم كنت أريدهم معنا على اللائحة. وقد دعوتهم إلى الإفطار»، الذي يقيمه النائب الطرابلسي لنحو 800 شخص، في الشمال، اليوم. يُصرّ رئيس «تيار العزم» على أنّ من تمكّن من تجيير 11 ألف صوت لا يُعدّ خاسراً، يقول مبتسماً كمن يعزّي نفسه. رُغم ذلك، التقط الرسالة التي وجهها له الشارع الطرابلسي. أولاً، بدأت إعادة الهيكلة في فريق العمل، ووُضِعَ برنامج جديد للتواصل مع الناس. أما المتغير الثاني فهو «عدم الاستخفاف بحيثية ريفي مستقبلاً». يُدرك الرجل أنّ للانتخابات النيابية نظامها الخاص الذي يختلف عن البلدية. ولكن، بالنسبة إليه، «بكّير عا النيابة، والحديث عنها مرتبط بقانون الانتخابات». هو يؤكد أنه «لا انتخابات نيابية من دون سلّة تبدأ بالاتفاق على قانون جديد، لأن من غير الممكن السير بقانون الستين، ثم انتخاب رئيس للجمهورية، بعدها يُقَرّ القانون، وفي المرحلة الأخيرة تجرى الانتخابات. وإلا، فسنكون أمام فراغ كبير». القانون الانتخابي «هو بداية إصلاح النظام». والصيغة الأصح لذلك هي «إما الاقتراح الذي قدمه الرئيس نبيه بري أي مناصفة: 64 أكثري على مستوى القضاء، و64 نسبي في المحافظات الخمس الكبرى. أو مشروع القانون الذي تقدمت به حكومتنا وهو النسبية في 13 دائرة». ويرى ميقاتي أن اقتراح بري سيدفع بالمرشحين في الدوائر الخمسة التي تُقام فيها الانتخابات وفق النسبية إلى تبنّي خطاب غير طائفي، لأن الدوائر الخمس تضم خليطاً سياسياً وطائفياً ومذهبياً.
يعترف فيصل كرامي بأن «الوضع محشور» في الانتخابات النيابية
في طرابلس، أشغال البنى التحتية في شارع «الضمّ والفرز» تخرق السكون الذي يفرضه شهر رمضان على عاصمة الشمال. دورة الحياة اليومية لا تتوقف وإن خفّت وتيرتها. في المدينة المُتهمة دوماً بالتطرّف والتشدد، ليس من المستغرب أن تلتقي فيها من يُدخن أو يشرب الماء. أشرف ريفي حاضر في التفاصيل. وزير العدل علّق لافتات تشكر أبناء طرابلس على انتخاب لائحة «قرار طرابلس» البلدية.
الحركة داخل مكتب الوزير السابق فيصل كرامي لا تختلف عن مرحلة الإعداد للانتخابات البلدية. غايات الزوار هي التي تبدلت. قسم يزوره مهنئاً برمضان، والقسم الآخر لا يشذّ عن قاعدة طلب الخدمات. يعترف كرامي بأنّ «وضعنا محشور في الانتخابات النيابية ولا يُمكننا أن نتعامل معها عبر منطق البلدية نفسه. ما بقا في رياحة». يتريث في الغوص أكثر في هذا الملّف بحجة أن الوقت لا يزال مُبكراً للبحث في التفاصيل. يقول: «سنستفيد من رمضان ليكون فرصة لترتيب البيت الداخلي. ما زلنا نُقيّم الانتخابات البلدية ونعمل على هيكلة جديدة في كلّ ما يتعلق بالماكينة الانتخابية». إعادة وصل ما انقطع مع المناطق الشعبية هو جزء من التقييم الذي يقوم به «الأفندي»، وكذلك مع الأعضاء في المجلس البلدي الجديد: «عدد منهم قريب منا، الرئيس نجيب ميقاتي وأنا. هؤلاء الأشخاص دخلوا إلى البلدية من أجل الإنماء». يؤكد أنّ أحداً منهم «لم يعتب علينا لأنهم قدروا الواقع السياسي والظروف». أما في ما خصّ جبل محسن «فيجب أن نتواصل مع المرجعيات الدينية والفعاليات السياسية أكثر». ماذا عن الحزب العربي الديمقراطي؟ «هم أخذوا موقفاً منا... على مهلن». وماذا عن ريفي؟ تتقاطع إجابته مع إجابة ميقاتي: «لا يُمكن تجاهله (ريفي) لأنه حالة موجودة في المدينة، لكن لا علاقة معه».
يرى البعض أنّ التحالف مع النائب سعد الحريري كان أحد عوامل خسارة «الائتلاف» في طرابلس. إلا أنّ كرامي، كما ميقاتي أيضاً، لا يبدو أنّه سيسعى إلى فكّ هذا الارتباط. الحريري «يملك أكبر كتلة نيابية سنّية واقترب كثيراً من خياراتنا، لماذا نعاديه؟ وصل إلى محل يرشح (النائب) سليمان (فرنجية)». يصف الوزير محمد الصفدي بـ«الصادق. نتواصل في المناسبات ولا مانع من التعاون مستقبلاً».
نائب رئيس «مؤسسة الصفدي»، أحمد الصفدي، لم يكن ينتظر نتيجة الانتخابات «حتى نعرف أن ريفي حالة في المدينة، فهو وزير ولديه شعبيته». لن يكون الصفدي عقبةً أمام المجلس البلدي الجديد، «رحّبنا بالنتائج لأن طرابلس هي الرابح الأكبر. كلنا أيدينا ممدودة للإنماء، فقد آن الأوان لأن تكون البلدية على مسافة واحدة من الجميع». في مركز «المؤسسة»، لا يزال المعنيون يعملون على تقييم التجربة السابقة. بالنسبة إلى ابن شقيق الوزير الصفدي «لن نُبدّل خطابنا السياسي المعتدل الذي يدعو إلى رفع المظلومية عن الناس. ما سنفعله هو طريقة التواصل مع الناس عبر سماعهم وإسماعهم ما يخدم مصلحة المدينة».
ينتظر أحمد الصفدي القانون الانتخابي لتحديد الموقف من «النيابة». يرى أن النسبية هي «القانون العادل، أما أي قانون آخر فلن يكون مُرضياً». في حال إبقاء قانون الستين، «ربما يكون التحالف السياسي أنسب الحلول للترشح». في 2013 تقدّم «أبو فتحي» بطلب ترشيحه للانتخابات النيابية، بعدما قرر عمّه «توريثه» المقعد الطرابلسي. حتى الساعة لم يُحسم القرار بعد، ولو أنه يوحي خلال الحديث معه أن الوزير الصفدي هو الذي سيُكمل المسيرة. «عمي وأنا وجهان لعملة واحدة. سرّ نجاحنا بأننا يكمل أحدنا الآخر». ورداً على الشائعات التي تقول إن زوجة عمه، فيوليت خيرالله، تريد إبعاده عن المقعد النيابي، يرد أحمد الصفدي بالقول إن هذه الشائعات ليست سوى «خبريات يتسلى بها البعض في المقاهي. العائلة لا تتجزأ والعلاقة لا يُمكن أن يلعب أحد بها».
أكثر ما يشغل بال هذه الشخصيات سماع «صوت الشعب». إما أنها خطوة شبيهة بخطاب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، حين قال قبل سقوطه: «الآن فهمتكم»، أو أنها بداية لاستجماع القوى، يقودها ميقاتي الذي يَعِد سائليه عن شعبيته بالقول: "لاقوني بعد ثلاثة أشهر".