تنشط الأيادي في مركز «كرمة» لتوضيب الفاكهة والخضر وتصديرها في منطقة خلدة. السيدات الكثر يغطّين شعورهن ويلبسن مراييل خاصة ويتحلقن حول طاولة أفرغت عليها صناديق من الكرز. العاملات، ومعظمهن سوريات، كنّ يفرزن الكرز المعدّ للتصدير عن الكرز الذي ينبغي استهلاكه سريعاً. هكذا، كانت كل طاولة من الطاولات الكثيرة في المستودع الضخم تستخدم لنوع من الفاكهة أو الخضر، في حين كان العمال الرجال يحملون الصناديق بعد وضعها على قطعة معدنية تتوسط الارضية، اكتشفنا أنها ميزان. كنا قد دخلنا هنا مع مروان ومحمد، من مبادرة «ليبانيز بنك فود»، لتحميل صناديق الفاكهة والخضر ذات الصلاحية المحدودة، أي المعدّة للاستهلاك خلال أيام قبل أن تتلف.
أنحني على صناديق البندورة التي كان العمال يزنونها لأتفحص نوعيتها. إنها جامدة، ومن الممكن أن تبقى لأيام ثلاثة ربما. أطوف على الصناديق: عرانيس، مشمش، خضر كالبروكولي، موز، ليمون..إلخ. يأخذ الشباب كشفاً ويوقّعون على إيصال، ثم ننطلق الى أحد فروع مؤسسات محمد خالد الاجتماعية في منطقة الأوزاعي، حيث من المقرر أن تفرغ الشاحنة محتوياتها.
وإن كان تكاثر هذه المبادرات، التي ينطلق بعضها من دوافع دينية وبعضها الآخر من دوافع إنسانية، دليل عافية في المجتمع لجهة التضامن مع الأقل حظاً وحفظ الكرامة الانسانية من ذل البحث في القمامة المتوافرة لبنانياً بكميات صعبة الهضم، فإنه أيضاً، وهذا الأهمّ، دليل على كارثة وطنية ملخصها تفاقم الأزمة المعيشية التي تؤدي يومياً الى انزلاق الكثير من المواطنين تحت خط الفقر إلى درجة عدم استطاعتهم تأمين أوَد يومهم خارج التسول أو قبول المساعدات العينية. هكذا لا يعود سؤال: أين يذهب الفقراء هذا المساء؟ من دون جواب. فموائد الجمعيات كثيرة. ولكنها على كثرتها لن تستوعب كل المعدمين اللبنانيين. هؤلاء لن ينقذهم من فقرهم الا تغيير هذا النظام وقيام الدولة، ولو أن هذه الجمعيات، في غياب الاخيرة، تطيل بنشاطها لحظة ما قبل السقوط في الهاوية.
«شاورما ع الحيط»! هذا العنوان هو الترجمة اللبنانية لفكرة «قهوة بالانتظار» التي انتشرت أوروبياً في العقد الأخير بعد انطلاقها من إيطاليا. ومبادرة Cafe suspendue أو «القهوة بالانتظار» تقوم على دفع ثمن فنجانَي قهوة، نشرب أحدهما ويعلق صاحب المقهى الفاتورة المدفوعة للفنجان الثاني على الحائط بحيث يتمكن أي شخص محتاج من أخذها وشرب الفنجان إن كان بحاجة. نُسيت الفكرة طويلاً ثم عادت إلى الظهور في عام 2011 مع الأزمة العالمية الاقتصادية، بداية في مسقط رأسها نابولي (كانون الأول 2011).
وبما أنه ليس المقصود بفنجان القهوة الفنجان بحدّ ذاته، فبإمكانك أن تدفع ثمن طبقٍ يومي أو أي شيء ساخن، على اعتبار إن أقسى الأوقات على العاطلين من العمل هي أيام الشتاء. فمن شأن طبق ساخن أن يبثّ فيك بعض الدفء ويجعلك تحسّ، إضافة الى دفء الجسد، بدفء التضامن الاجتماعي.
صلاحية الغذاء المتبرَّع به جيدة جداً وليست قريبة الانتهاء

وفي حين تلقّف الفكرة، في فرنسا، شباب حركة «الغاضبين الفرنسيين»، التي حاولت تحويلها الى نظام عبر السعي إلى إنشاء شبكة من المطاعم والمقاهي التي تبنّت هذا المبدأ، مع صفحات فايسبوك لإرشاد الناس إلى المقاهي المشاركة، فقد تلقفها في لبنان مطعم شعبي في منطقة الطريق الجديدة اسمه «الصوصة»!
هكذا، يقول لنا أبو عمر الصوصة، صاحب المطعم ( الذي كان مغلقاً للتجديد حين وصلناه) إنه استقى الفكرة من صديق له «بيسافر كتير»، وإنها أعجبته «لأن الكل بيستفاد: الفقير بياكل مجاناً والبياع ببيع بدل السندويشة تنتين، والمتبرع بيكون رضي ربّو».
لكن العبقري في الاقتباس «الصوصي»، إن جاز التعبير، أنه وجد الترجمة الشعبية الملائمة للكلمة، فأصبح اسمها «شاورما ع الحيط». «والله ستنا مشيت كتير منيح شي 3 أو 4 أشهر وبعدين ماتت». ولكن لِمَ؟ يقول «هلق هيك ما بعرف، بس يمكن لازم نعملها «أبدايت» ونحط أفكار جديدة». نقترح عليه: كوجبة إفطار مثلاً؟ فيجيب «ايه ليش لأ؟ ممكن نعملها باكيتج ... يعني واحد بيفطّر حدا ما بيعرفو، منيحة هاي». ثم يستدرك «هلق في ناس كانت تدفع حق سندويشة بدون ما يكون هيه بدها تشتري يعني. كتير صار إقبال ع الفكرة خاصة عنّا بالمنطقة، فينا نعمل هيك كمان».
اليوم تبنّت جمعيات جديدة هذه الفكرة، كجمعية «بنك الغذاء» في صيدا، الذي فهمنا من مؤسّسه رغيد مكاوي، الذي عين السنة الماضية رئيساً لصندوق الزكاة في صيدا، أنه قام بالتشبيك مع «ليبانيز بنك فود» في بيروت، للاستفادة أكثر من مركزية التبرعات في العاصمة. يقول مكاوي للأخبار « بدأت العمل منذ حوالى 8 أشهر، كانت الفكرة الأولية أن نجمع فضلات الطعام ونعيد توزيعها، إلا أني طوّرت الفكرة فقصدت تجاراً ومؤسسات غذائية كبيرة في صيدا لجمع تبرعات منها، هكذا وجدت أني أتجه أكثر صوب وسيلة الحصص الغذائية، وفيها حفظ لكرامة الناس أكثر، حيث إن صلاحية الغذاء المتبرع به جيدة جداً وليست قريبة الانتهاء. واليوم نوزع أربعمئة حصة غذائية، وكل حصة عبارة عن 35 نوعاً مختلفاً من حبوب وزيوت وحلويات وحتى خضر».
لم يكتف مكاوي بهذه المبادرة، فانطلق صوب مبادرة جديدة اسمها «وان كيلو داي»، أي يوم التبرّع بكيلو، وهي تتلخص في طلب المدارس من الأهالي أن يرسلوا كيلو من المواد الغذائية مع ابنهم الى المدرسة، طبعاً بموافقة الأولاد، وهكذا جمعنا طناً في يوم واحد. ثم قلت في نفسي لأضع مستوعبات في السوبرماركات الكبيرة مباشرة بعد صناديق المحاسبة، هكذا يتمكن الذي يريد التبرع من وضع ما تيسّر من مواد في المستوعب». نسأله «ما مدى نجاح الفكرة؟ يقول «والله يا سيدتي عم نفضي المستوعبات أوقات مرتين باليوم».
نَهُمّ بإنهاء المقابلة، لكنّ الرجل يستدرك «كمان أطلقنا اليوم برمضان مبادرة نريد تعميمها على مدار السنة لتأمين وجبات ساخنة للمحتاجين». نسأله كيف؟ فيجيب «طفنا على البيوت ... يعني ست البيت بدل ما تطبخ لخمسة أشخاص بتطبخ لستة، ونتسلم الوجبة ونسلمها ساخنة وطازجة للمحتاج». ثم يستطرد بشرح تقديماتهم «عنا 1350 عائلة محتاجة، أي حوالى 6 آلاف مواطن بس بصيدا، عملنالهم بريبايد كارت لمبلغ شهري وبيخولهم كمان يفوتوا بالمجان يتطبّبوا وياخدوا أدوية مزمنة ببعض المستشفيات اللي اتفقنا معها»! نمازحه قائلين: هيك قريباً ما بقى نحتاج دولة! فيردّ «والله عم نشتغل عنها».