تشير آخر استطلاعات الرأي في المملكة المتحدة إلى أن نسبة المؤيدين لفكرة الخروج من الاتحاد الأوروبي تزداد باطراد مع اقتراب موعد الاستفتاء في ٢٣ من الشهر الجاري. فقد قال ٤٧٪ من الذين شملهم الاستطلاع إنهم يريدون بريطانيا خارج الاتحاد، بينما قال ٤٠٪ منهم فقط إنهم يؤيدون البقاء ضمنه. البقية بالطبع (١٣٪) مترددون أو لا يعتزمون التصويت أصلاً. ولعله ما يزيد من قلق مؤيدي "البقاء" أن كتلة مهمة من أنصار الاتحاد هم من جيل الشباب، وهي مجموعة ديموغرافية معروفة تاريخياً بقلة إقبالها على التصويت الفعلي. كذلك تراجعت تقديرات شركات المراهنات لاحتمال التصويت بالبقاء بـ ١٤ نقطة مئوية خلال الأسبوع الماضي إلى أقل من ٦٥٪، وهو ما سبّب موجة قلق عارم في بورصة لندن وأوصل الجنيه الإسترليني إلى مستويات قياسية دنيا في مقابل العملات الرئيسة، إذ إن القطاع الاقتصادي البريطاني في مجمله يرى في عضوية الاتحاد مسألة شديدة الأهمية، وهو قلِق من تصويت مفاجئ باتجاه المغادرة.يفسّر المراقبون هذا الاتجاه المتسارع باتجاه معسكر المغادرة، وخاصة في المناطق المحافظة خارج العاصمة وفي الأرياف، بتوسع حملات الترويج التي تسوق لفكرة أن الهجرة (سواء من داخل الاتحاد الأوروبي أو عبره) هي التي تؤدي إلى الضغط على المرافق العامة كالمدارس والخدمات الطبية، كذلك أزمة الإسكان المستعصية وتراجع المدخول، بل وحتى ازدياد معدلات العنف والتطرف. وكانت جريمة اغتيال النائبة العمالية، جو كوكس، الأسبوع الماضي، على يد إرهابي بريطاني يميني يعارض الهجرة، تتويجاً مؤسفاً لهذه الحملات التي ما لبثت أن استؤنفت صباح اليوم التالي لاغتيال النائبة.
ولا شك في أن فشل حكومة المحافظين في لجم أرقام الهجرة لأقل من مئة ألف مهاجر سنوياً، وفق خطتها المعلنة، وإعلان أرقام قياسية لأعداد المهاجرين في العام الماضي (أكثر من ٣٣٠ ألفاً وفق المصادر الرسمية) قدّم خدمة كبيرة لتيار المغادرة الذي جمع صقور اليمين البريطاني، بوريس جونسون، ومايكل جوف، ونايجل فراج.
ومهما يكن من أمر، فإن الرأي العام البريطاني يبدو منقسماً بشدة حول موضوع العضوية في الاتحاد. يقود رئيس الوزراء الحالي، ديفيد كاميرون، حملة البقاء، وهو مدعوم من تيار يمين الوسط في حزب المحافظين، إضافة إلى تيار الوسط في حزب العمال، ويحظى بتأييد واسع من القطاع المالي ومصالح الرأسمال وبنك إنجلترا (المركزي). وتركيز الحملة في هذا الجانب متمحور حول إشاعة مناخ من الخوف من المجهول واحتمالات خسارة ملايين الوظائف وفقدان المكانة المميزة للمملكة المتحدة في الأسواق المالية العالمية، وهو ما قد يؤدي إلى انتشار البطالة وتراجع الأجور واضطرار الحكومة إلى زيادة الضرائب وتقليص الخدمات العامة. وقد شاركت رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، في برنامج التخويف هذا، فقالت: "إن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي سيسبب نتائج تراوح ما بين سيئة للغاية إلى أسوأ للاقتصاد البريطاني، وستقود البلاد إلى موجة ركود جديدة".
المعسكر المقابل الذي يدعو إلى المغادرة، يضم تحالفاً من الأحزاب اليمينية مع مجموعة من تيار اليمين في حزب المحافظين الحاكم، على رأسهم رئيس بلدية لندن السابق، بوريس جونسون، إضافة إلى بعض أحزاب اليسار الهامشية، وهو تحالف يدعو إلى استعادة "استقلال" البلاد من أيدي بيروقراطيي بروكسل، ووقف الهجرة، وإعادة توجيه ثروة البلاد لبناء المؤسسات العامة والاقتصاد المحلي.
بين المعسكرين، يوجد يساريون هامشيون يدعون لمقاطعة الاستفتاء ككل، بوصفه غير ذي صلة. ورغم انعدام شعبية هؤلاء، واستحالة أن يتحولوا إلى كتلة ضاغطة في أي اتجاه، فإن ما يقولونه ربما كان يستحق التوقف عنده.
إن هذا الاستقطاب في المواقف الذي تشهده الساحة السياسية البريطانية ــ وتراقبه الساحات الأوروبية الأخرى ــ ليس في واقع الأمر إلا صراعاً سياسياً محضاً بين الأحزاب والتيارات الطامحة إلى الحكم. وما الاستفتاء ــ كما يقول البعض ــ إلا مناورة تورط فيها رئيس الوزاء الحالي في أجواء سياسية مختلفة لدى إجراء الانتخابات العامة العام الماضي. ولا شك في أن أي مشاعر سلبية ضد الاتحاد قد ينتهي إليها الاستفتاء، ليست إلا عارضاً آخر من أعراض الأزمة المالية التي ضربت الاقتصادات الرأسمالية بدءاً من عام ٢٠٠٨، وأنهكت جيلاً كاملاً من الأوروبيين الذين عضتهم البطالة وسياسات التقشف المتمددة وانعدام النمو وارتفاع المديونيات العامة والخاصة على حد سواء. هو تصويت على انعدام الأمل لا أكثر.
بفعل حملات التخويف، قد يبدو اليوم التالي بمثابة فيلم رعب هوليوودي

الأوساط الأكاديمية البريطانية منقسمة بدورها حول الموضوع، لكن الأصوات النافذة كالبروفيسور، أندرو ماروفيسك، مثلاً، ترى أن "خروج بريطانيا من الاتحاد أمر غير ممكن ولن يحدث تحت أي ظرف من الظروف". فمن الواضح أن المملكة المتحدة لم تعد إمبراطورية عظمى لا تغيب عنها الشمس، وهي تخلت في حرب السويس رمزياً عن أدوار الهيمنة تسليماً بصعود الولايات المتحدة واكتفت منذ ذلك الحين بلعب دور الحليف الأوثق للإدارة الأميركية، سواء كحصان طروادة داخل المجموعة الأوروبية، أو كحامل حقائب في مغامراتها الدموية حول العالم. هذه العلاقة الخاصة (وهو بالمناسبة تعبير استخدمه ونستون تشرشل نفسه لوصف شكل العلاقة بين الطرفين منذ عام ١٩٤٦) تعني بالضرورة أن التموضع الاستراتيجي للمملكة المتحدة يخدم المشروع الأميركي على نحو أفضل بكثير من داخل الاتحاد الأوروبي لا خارجه. وقد كان الرئيس باراك أوباما واضحاً للغاية في تأييده لمعسكر البقاء في الاتحاد، وهو زار لندن في نيسان الماضي ضمن حملة علاقات عامة شعبية، وأجرى مقابلات موسعة على القنوات التلفزيونية، وُجهت أساساً إلى الناخب البريطاني، للحديث عن فوائد البقاء في الاتحاد وخطورة مغادرته.
بين حملات التخويف المتبادلة هذه، قد يبدو اليوم التالي للاستفتاء بمثابة فيلم رعب هوليوودي. لكن الأمور ــ وفق الخبراء ــ تكاد تكون محصورة بسيناريوهات قليلة ذات نطاق تأثير محدود وبطيء. إذا صوّت الناخبون للبقاء ضمن الاتحاد، فإن رئيس الوزراء الحالي، ديفيد كاميرون، يكون قد حصل على تفويض صريح للبقاء في الحكم لسنتين مقبلتين على الأقل مع استمرار سياسات المحافظين الحالية دون تغيير يذكر، على أن يبدأ بعدها البحث عن وجه جديد لإدارة معركة الانتخابات العامة في ٢٠٢٠ في مواجهة صعود نجم زعيم حزب العمال، جيريمي كوربن. أوروبياً، قد يحصل كاميرون عندئذ على ترضيات شكلية في ما يتعلق ببعض سياسات الهجرة، وهي سياسات بعضها تحبذها ألمانيا. أما إذا حصل الأسوأ، وصوّت الناخبون على الخروج من الاتحاد، فإن ديفيد كاميرون قد يترك (غالباً) المنصب لبوريس جونسون الذي سيحاول لملمة الأمور وشراء الوقت، وربما الدعوة إلى استفتاء جديد تكون الغلبة فيه للداعين إلى البقاء، وهكذا "ينفضّ المولد" ويستمر المحافظون في إدارة البلاد دون تحديات فعلية حتى نهاية العقد الحالي.
وحتى لو صوّت الناخبون على نحو حاسم بالخروج من الاتحاد، فإن عملية الطلاق ستأخذ فعلياً عدة سنوات قبل أن تأخذ مفاعيلها، وهي فترة تسمح للطبقة المهيمنة في البلاد بأن تعيد طرح فكرة البقاء في إطار أجواء سياسية مختلفة وتستعيد المبادرة لمشروع البقاء. أي سيناريوهات أخرى، كاستقالة الحكومة مثلاً، وإجراء انتخابات عامة، أو تولي "العمال" إدارة البلاد تفتقد الصدقية وليس لها رصيد من الواقع، علماً أن استفتاء مماثلاً أجري عام ١٩٧٥، انتهى إلى تأييد البقاء في الاتحاد بنسبة الثلثين، ولم يكن له تأثير فعلي بتركيبة السلطة حين ذاك.
إذن، مهما كانت نتيجة استفتاء يوم الخميس، فإنّ فقراء هذه الجزيرة العريقة لن يجدوا أي تغيير يذكر في مسارات حياتهم اليومية، وسيعودون إلى أعمالهم ــ أو بطالتهم ــ يوم الاثنين المقبل وكأنّ شيئاً لم يكن، إذ كما يقول لاري إليوت، محرر الشؤون الاقتصادية في "ذي غارديان"، فإن الاقتصاد السيئ ينتج سياسة أسوأ. هكذا كان الأمر دوماً، وسيبقى كذلك.




هاموند: إذا خرجنا فإنّ شروط العودة صعبة!

حذّر وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند، أمس، من أن بلاده لن تتمكن من العودة إلى الاتحاد الأوروبي إذا خرجت منه "إلا بشروط غير مقبولة"، متوقعاً أن تكون نتائج التصويت بين المعسكرين "متقاربة جداً". وقال هاموند، عند وصوله إلى اجتماع مع نظرائه الأوروبيين في لوكسمبورغ: "إنه قرار لا رجعة فيه. إذا قرروا المغادرة، فلن تكون هناك عودة. لن يعود بإمكان بريطانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في وقت لاحق إلا بشروط غير مقبولة"، مثل إلزامها بالانضمام إلى منطقة اليورو أو إلى مجال "شنغن". وقال هاموند: "من الواضح جداً أن من الأفضل لمصلحة بريطانيا البقاء عضواً في الاتحاد الأوروبي"، مضيفاً في الوقت نفسه أنه سيذكّر زملاءه الأوروبيين بأن حكومته "تنتظر تطبيقاً سريعاً وكاملاً" للإصلاحات التي انترعتها لندن من الاتحاد.
(أ ف ب)