منذ عام 1973، تاريخ دخول المملكة المتحدة ضمن الإطار المؤسساتي الأوروبي، وُصفت لندن مراراً بأنها «الطفل المدلل للاتحاد الأوروبي»؛ فهي تحظى بعدد من الاستثناءات، أهمها عدم الانضمام إلى «الشنغن» وعدم اعتماد عملة اليورو. وهو وصف عاد ليظهر خلال المدة الأخيرة عقب تصاعد حدة النقاش الأوروبي إزاء احتمال «خروج بريطانيا» (بريكست) من الاتحاد.يوضح المتخصص في القانون الأوروبي، جان كلود بيري، أنّ البريطانيين «غالباً ما كانوا مزعجين في بروكسل». وبينما يرى أنه رغم ذلك «هم أيضاً، غالباً ما كانوا محقين»، فإنه يشير إلى أنّ مشكلة البريطانيين قد تكمن في أنهم «لا يزالون يولّون وجوههم نحو المحيط». ولعلّ في حديث بيري ما يوضح طبيعة النقاش الأوروبي القائم حالياً، ويشير ـ ولو جزئياً ـ إلى طبيعة المطالبات البريطانية لتخصيصهم باستثناءات إضافية.

«بداية النهاية»

أمس، حذّر رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، من أنّ الخروج من الاتحاد يمثل «مخاطرة هائلة» على الاقتصاد المحلي، مخاطباً مواطنيه بالقول: «فكروا في آمال أطفالكم وأحفادكم وأحلامهم». وأمام عدم وضوح التوجّه العام لدى البريطانيين، حثّ عدد مهم من الصحف المحلية البريطانيين على التصويت لـ«البقاء»، محذرين من تداعيات الخروج السلبية على الاقتصاد، وعلى المجتمع ككل.
المؤرخ والكاتب، أنثوني بيفور، كتب في صحيفة «ذي غارديان» أن بريطانيا ستصبح «الأمة الأكثر كرهاً في العالم... (لأنها) ستقوم بتدمير فكرة الدمج والوحدة وترسيخ مبدأ التفكيك والتقسيم». وذكّر بيفور بما قاله رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، عن أن الخروج البريطاني هو «بداية النهاية» للاتحاد الأوروبي، معتبراً أنّ «عيوب الاتحاد لا تبرر تدميره».
سلافوي جيجك: هناك أسباب لدعم البريكست، لكن خلفية الخيار الأيديولوجية مقلقة

أما لين مكلوسكي، زعيم أكبر نقابة عمالية في بريطانيا، فاعتبر، في مقالة له، أن الخروج من الاتحاد «لن يوقف توريد اليد العاملة الرخيصة إلى بريطانيا» كما يدعي المعسكر المناهض للبقاء، إذ إن «من يكسب من الأجور المنخفضة لهؤلاء العمال سيُدخلهم البلاد كما في الماضي». وأضاف: «إنّ الحجّة القائلة بأن مغادرة الاتحاد الأوروبي ستؤدي إلى عدالة اجتماعية، هي خدعة من قبل الجناح اليميني في حزب المحافظين»، خصوصاً أن البعض «قد يعتبر أن حقوق العمال ليست بفضل الاتحاد الأوروبي بل الاتحادات النقابية، وهذا صحيح، لكن الحفاظ على هذه الحقوق يكون بالوحدة العابرة للحدود بين العمال، وليس في العزلة والتخلي عن نقابات العمّال في الخارج».

رهانات على ضفة أخرى

ضمن سلسلة «رسائل إلى البريطانيين» كتبتها شخصيات أوروبية ونشرتها «ذي غارديان» قبل أيام، قد يرى البعض أنّ الكاتب الألماني، تيمور فيرميس، بالغ في قراءته حين قال: «إنّ الاتحاد الأوروبي نشأ نتيجة الحرب العالمية الثانية... وكان على أكثر من 60 مليون شخص أن يموتوا قبل أن تؤمن الأكثرية بأن الاتحاد يستحق العناء... كل شخص لديه الحق في الانتظار حتى يقتنع بأهمية هذا الاتحاد، لكن يجب أن يعرفوا أنه في المرة المقبلة، لن يحصلوا على هذه الفرصة بثمن رخيص».
الربط بين التلميح إلى الصراعات الأوروبية في كلام فيرميس، وبين ولادة عصر أوروبي جديد، قد لا يستقيم. لكن عملياً، إنّ الحدث البريطاني جاء في ذروة الأزمات التي تواجهها المنظومة الأوروبية، وهذا ما يظهر في كلام وزير المال اليوناني السابق، يانيس فاروفاكيس، والمفكر السلوفيني، سلافوي جيجك، ضمن سلسلة الرسائل نفسها.
دعا فاروفيكس البريطانيين إلى البقاء في الاتحاد الاوروبي، لأن بلادهم ستبقى «عالقة في أوروبا»، وفي حال الخروج، فإنها ستواجه منظومة أوروبية «أكثر شراً، وأكثر حزناً وشعوراً بالخطر على نفسها». وفيما وافق التوجه القائل بأنّ الاتحاد الأوروبي مؤسسة «بيروقراطية، مبهمة»، لكنه لفت إلى أنّ تفكيك الاتحاد لن يؤدي على الأرجح إلى «صعود الديموقراطيين التقدميين في جميع أنحاء أوروبا، وازدياد قوة البرلمانات، وانتشار قوى النور والأمل، وتعزيز التعاون والتناغم في القارة». واعتبر أنّ ذلك سيؤدي إلى «تفكك الاتحاد الأوروبي بشكل يقسم القارة بين جزأين... في الشمال الشرقي، ملايين العمال سيصبحون عاطلين من العمل بسبب الانكماش، بينما في الجزء اللاتيني، سيكون التضخم والبطالة سيدي الموقف»، محذراً من أن «وحوش السياسة وحدهم سيستفيدون».
جيجك من جهته، بدأ رسالته بشكل مختلف، قائلاً: «حين سئل ستالين في أواخر العشرينيات أيهما الأسوأ، اليمين أو اليسار، عاد إلى الوراء، وقال: كلاهما سيئ. هذه ردة فعلي الأولى حول مسألة الخروج أو البقاء في الاتحاد الأوروبي». وأضاف: «لا يهمني استمالة البريطانيين عاطفياً... ما يهمني أمر وحيد: أوروبا عالقة في حلقة مفرغة وتتأرجح بين الأضداد الكاذبة للاستسلام للرأسمالية العالمية والاستسلام للشعبوية المعادية للمهاجرين».
وبينما أشار إلى أنّه من «وجهة نظر يسارية، هناك بعض الأسباب الوجيهة لدعم البريكست: دولة قومية قوية تُعفى من سيطرة تكنوقراط بروكسل ويمكن أن تحمي الرفاه وتواجه السياسات التقشفية»، فإنه اعتبر أنّ «الخلفية الأيديولوجية والسياسية لهذا الخيار مقلقة، لأنّ من اليونان إلى فرنسا، هنالك اتجاه جديد ناشئ في ما بقي من اليسار الراديكالي: إعادة اكتشاف القومية... والسبب في ذلك واضح: صعود اليمينية الشعبوية القومية في أوروبا الغربية، التي هي الآن أهم قوة سياسية تدعو إلى حماية مصالح الطبقة العاملة، وفي الوقت نفسه أهم قوة سياسية قادرة على تعبئة (الأهواء السياسية المناسبة)».
وختم جيجك رسالته بإبداء القناعة بأنّ «أملنا الوحيد هو العمل بصفة عابرة للأوطان... الدولة القومية ليست أداة مناسبة لمواجهة أزمة اللاجئين، والاحتباس الحراري، وغيرها من القضايا الملحة حقاً. فبدلاً من معارضة البيروقراطيين نيابة عن المصالح الوطنية، دعونا نحاول تشكيل اليسار في عموم أوروبا. بسبب هذا الهامش من الأمل يغريني أن أقول: صوتوا ضد بريكست، ولا تتنافسوا مع اليمينيين الشعبويين».
عموماً، في ظل الأزمات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي، قد يضاف خروج بريطانيا، لو حصل، إلى عدة عوامل متراكمة تشير إلى أنّ عصر الرفاه الأوروبي بدأ بالغروب.