الغرق في التعامل "العاطفي" مع ضحايا العمليات الانتحارية التي ضربت بلدة القاع وتهدد مخاطرها أيضاً بلدة رأس بعلبك التي تغفل عنها العين الامنية، لا يمكن أن يؤسس لرؤية حقيقية سياسية وأمنية لما جرى وما يُعدّ للبلدتين، ومن ورائهما للبنان كله. كذلك فإنه لا يبنى عليه في معالجة ذيول ما حصل، وتطويق تداعيات الاحتمالات التي يتلمس خطورتها كل من عاين منذ نحو عامين حتى الآن وضع البلدتين. في السياسة كلام كثير يقال اليوم عن البلدة التي لم تدفن شهداءها بعد:أولا، هناك إغراق في التعامل مع القاع على أساس أنها "بلدة مسيحية"، وهذا يعني في الذاكرة الشعبية والسياسية الحديثة مقاربة ما يحصل على أنه استهداف لحالة مسيحية ضعيفة، حتى يكاد كلام بعض السياسيين والجولات "السياحية" فيها، يشبه الكلام عن مسيحيي المشرق العربي المهددين بالزوال. وهذا أمر لا يطمئن، بدليل كثرة الزيارات ذات الطابع المسيحي اليها، بما في ذلك زيارة قائد الجيش العماد جان قهوجي، الذي لم يتفقد الضاحية الجنوبية مثلاً حين وقعت التفجيرات فيها، والتنافس المسيحي العوني ــ القواتي ــ الكتائبي حولها، في وقت كان يفترض فيه أن يجري التعامل مع الحدث الانتحاري كما كان يجري في كل التفجيرات الانتحارية الاخرى. فالقاع ذات هوية مسيحية، وقد يكون ضربها بالعمليات الانتحارية من هذا الباب أو من خانة أوسع. لكن يفترض أن يكون الرد أمنياً وسياسياً أشمل من العباءة الطائفية التي دلت على النظرة المستضعِفة لواقع المسيحيين الحالي، علماً بأن التعامل الاعلامي والسياسي مع البلدة تم وكأنه اكتشاف لحالتها، سواء عبر افتقادها لمقومات الحياة اليومية والتعديات ومشاكل المياه والمشاعات فيها ومشكلة مشاريع القاع ومخيم النازحين السوريين، وهو ما عبّر عنه رئيس البلدية بشير مطر أمام الوزير حسين الحاج حسن ممثلاً الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. فمشكلة القاع، لمن يتباكى عليها، ليست آنية بل مزمنة بكل تفاصيلها السياسية والامنية. والتعامل مع ما حصل فيها بغير حقيقته، يحوّلها خاصرة رخوة في الخط الامني.
ثانياً، بخلاف كل التقارير الامنية الرسمية وغير الرسمية، ما حصل في القاع هو نتيجة ثغرة أمنية كبيرة في أكثر من نقطة أساسية. والامنيون الذين عملوا في المنطقة يعرفون تماماً هذه الثغر، وقد قيل هذا الكلام، وكتب أكثر من مرة عن الخطر المحدق منذ سنتين ببلدات البقاع الشرقي والشمالي، وخاصة القاع وراس بعلبك، نظراً الى تداعيات حرب سوريا، وطبيعة الجغرافيا المحيطة بها، ومخيم النازحين السوريين الذي تعدى عدد قاطنيه 30 ألفاً في فترة وجيزة، مقابل سكان بلدتين لا يتعدى عددهم ستة آلاف نسمة، وتدابير أمنية لا ترتقي الى مستوى هذا الخطر الذي جرى تحذير قيادة الجيش منه تكراراً. حتى إن ردّ الفعل الامني الأول لم يكن بمستوى التدابير التي يفترض اتخاذها في عملية نوعية كهذه، وفي منطقة يتوقع أنها تحت المجهر الأمني، علماً بأن الاحزاب المعنية أيضاً بواقع البلدتين "المسيحيتين" تجاهلت أيضاً ما تبلغته من أبنائها عن حقيقة ما يجري فيها، منذ شهور، الى أن وقعت الواقعة، و"اكتشف" الجميع فجأة وجود حالة مستعصية وأخطار جمة.
ثالثاً، كل من تابع وضع العراق وسوريا والمناطق التي اجتاحتها تنظيمات داعش والنصرة يدرك أن هذه التنظيمات تطور دوماً أساليبها في العمليات وتطور استخدام المنفذين والاهداف. وما حصل قد يكون من باب جس النبض والاستكشاف، لأن هذه العمليات ضرورية كمرحلة أولى قبل أي عملية نوعية كبيرة. السؤال كيف يمكن أن تواجه مثل هذه العملية في حال حصلت، وهل هناك خطة عسكرية وسياسية كبيرة أبعد من حفلة الاستنكارات والاجتماعات الأمنية؟ الأكيد أن السلاح الفردي والاندفاعة التي يقوم بها أهل القاع والعسكريون المتقاعدون، والمقاتلون السابقون الذين تقدم معظمهم في العمر وتحمسوا لحمل السلاح، لا يكفيان لمواجهة عملية بحجم مخطط مرسوم للمنطقة، بكل تشعباتها وتداخلاتها مع سوريا والمحيط اللبناني، لأن ما يجري ليس اشتباكات وجبهات متقابلة، بل عمليات انتحارية لا تواجه ببنادق رشاشة. والأكيد أن الحملة ضد النازحين السوريين قد تتراجع تدريجاً، كما التدابير الامنية التي تتراخى تلقائياً، والاجتماعات الامنية المطولة ليست كفيلة بمواجهة ما يُعدّه من نفّذ العلميات الانتحارية، من مخططات جرى الكلام عليها في اعترافات الموقوفين أو في تقارير أمنية غربية في عزّ التعاون الاستخباري بين لبنان والاجهزة الغربية، وهذا يوصلنا الى النقطة الاساسية.
ما حصل في القاع هو نتيجة ثغرة أمنية كبيرة في أكثر من نقطة أساسية

لا يمكن التعامل مع التفجيرات الانتحارية بمعزل عن الكلام على سحب الاميركيين مظلة الاستقرار فوق لبنان. لا يعني ذلك أن الاميركيين أعطوا الإذن بتفجيرات من هذا النوع، بل يعني أن ثمة من استفاد من الثغرة الامنية والسياسية والمالية التي فتحتها العقوبات الاميركية على حزب الله وحملة التضييق الخليجية أولاً والاميركية ثانياً، من أجل الانقضاض على الوضع الامني من باب غير متوقع. فالتحذيرات الامنية الاخيرة صبّت على تفجيرات محتملة في الضاحية الجنوبية والمناطق الشيعية، أو بيروت الكبرى بمناطقها الحساسة. لكن الضربة الكبرى جاءت في أقصى بلدة حدودية، ومسيحية، لكنها تشكل مفتاحاً أساسياً في التصويب على المناطق الشيعية واستهداف المواقع القريبة التابعة لحزب الله. وهذا يعني أن بداية الخلل في حفظ الاستقرار قد حصل. ينسى المسؤولون اللبنانيون، أمنيون وسياسيون، أن هناك حلقات مترابطة في مسلسل الامن السياسي والعين الساهرة، وحين تهتزّ حلقة يمكن للحلقات كلها أن تتراخى تدريجاً. وما حصل من عقوبات وجرى التهليل له، ليس إلا أول الغيث، وتفجير القاع أعطى إشارة قوية إلى وجود أطراف تحاول الإفادة من أي خلل لضرب الامن في أي منطقة تتمكن من الوصول اليها.
لكن الاخطر من التفجيرات وما يُعدّ لمنطقة البقاع الشرقي، ردّ الفعل الأوّلي حتى الآن. تلك المنطقة ليست الضنية عام 2000، ولا نهر البارد. وليست عبرا في أحسن أحوالها. لا أحوال الجيش وقراره يماثلان تلك المرحلة، ولا التعامل السياسي على مستوى كل الاطراف يساهم في إعداد ردّ متكامل، ولا حرب سوريا المجاورة ووجود النازحين السوريين يسهلان أي عملية نوعية مضادة، ما دامت القوى السياسية قد توزعت فوراً على معسكرين؛ الأول حمّل حزب الله المسؤولية، وعاد الى مناداته بتطبيق القرار 1701 على كامل الاراضي اللبنانية وانتشار القوات الدولية على كافة الحدود ورفض حمل أبناء المنطقة السلاح في وجه التنظيمات؛ والثاني صوّب الأنظار نحو الدول الراعية لهذه التنظيمات ومخيمات النازحين والتضييق عليها.
منقطة البقاع الشرقي في خطر كبير، والخوف ليس مما هو آت اليها فحسب، بل من أن تكون المواجهة على مستوى السلطة السياسية والأمنية أقل من المتوقع، وأن تفقد كل الاجتماعات وتيرتها وتعود تدريجاً إلى التأقلم مع هدوء مؤقت تعيشه المنطقة، فينصرف المعنيون الى متابعة جولات الهدر والفساد، في انتظار جولة عنف جديدة وجولة استنكارات جديدة، فيما أهل القاع يبكون شهداءهم.