في الزمن السوري، كلما أراد نظام الوصاية المشترك الشهير، تمرير صفقة أو تغطية فضيحة، كان اللبنانيون على موعد مع ضخ خانق من الفبركات الأمنية الإعلامية. كميات هائلة من التلفيقات والتخيّلات الهذيانية، والأخبار الكاذبة والشائعات المفضوحة... تفتح لها كل الصفحات، وتسيل لها أقلام، بعضها صار من أبطال الثورات على ذلك النظام لاحقاً. مثلاً، بعد انفجار كنيسة سيدة النجاة في ذوق مكايل في 27 شباط 1994، عاش البلد طيلة أسبوعين في جو من الرعب المطلق. كل يوم خبر عن اكتشاف دزينة عبوات، وعشرات القنابل اليدوية وذخائر وأسلحة من كل الأصناف والأعيرة... حتى صار ما صار. فجأة، انتهت كل الأخبار. تعطل الدكتيلو أو تكسرت أزراره. ومضى الناس إلى حياتهم كالمعتاد. ومن عاداتهم المعتادة أن ينسوا خبر الأمس، ويستبدلوه بخبر اليوم، مثل نشرة الطقس!بعد سبعة أعوام، وفي ذلك الزمن نفسه، يوم أراد النظام ذاته استيعاب صدمة زيارة البطريرك صفير إلى الجبل مطلع آب 2001، بما سبقها من تمهيديات وما خلّفته من نتائج في السياسة، بلغ الأمر بأحد الوزراء أن دخل إلى جلسة لإحدى حكومات تلك الأيام، ليعلن أن أجهزته زوّدته بالأدلة الدامغة على أن اثنين ينفذان انقلاباً عسكرياً في البلاد لصالح اسرائيل بالذات. أما الانقلابيان المدانان بالحكم المشهود، قبل الجرم ومن دونه، فلم يكونا إلا نديم لطيف وتوفيق هندي... مرّت الحادثة. كما مرّ سواها. نسي الناس. تناسوا أو تكيّفوا أو تروّضوا أو تطبّعوا أو تدجّنوا... المهم أن النظام استمر، كما استمر شغله As usual.
بعد ستة أعوام على تلك المهزلة، كان نظام الوصاية قد سقط. لا بل كان أركانه الأمنيون المفترضون في السجن. وكان راعيه السوري قد انسحب، من المؤسسات الرسمية على الأقل. وكان ثوار الأرز قد اجتاحوا "باستيلات" بيروت ومجالسها كافة. فجأة، انفجرت عبوة في عين علق في 13 شباط 2007. وفجأة أيضاً خرج أمنيون، بعضهم صاروا وزراء ــــ أم غير وزراء الله اعلم ــــ ليؤكدوا أنهم ألقوا القبض على المجرمين وأنهم مرتبطون مباشرة بالنظام السوري المجرم وأن محاكمتهم ستفضح كل إجرام دمشق، من قبل اغتيال رفيق الحريري إلى كل الاغتيالات التي لم تقع بعد. وعلى مدى أسابيع دأب الإعلام الآذاري ينسج على تلك اللازمة. تفريد وتغريد وإضافات واجتهادات. حتى صارت صفحاته "عينعلقية" لا غير. على قاعدة أن الأمر يستحق، لأن المجرم قد ضبط أخيراً وأن القناع قد سقط عن وجهه نهائياً... بعد تسعة أعوام على تلك الجريمة، لم يعرف أي لبناني من كان خلف المنفذين الذين جُرجروا أمام المجلس العدلي، في بلد طارت كل مجالسه ومُسخ العدل فيه. يومها، اعتبر بعض الناشطين الحقوقيين أن المشكلة كانت في أن المسرّبين والمستعرضين أمنيون، ولو آذاريين. وبالتالي فلوثة النظام السابق كانت لا تزال رواسبها عالقة في سلوكياتهم وتفكيرهم وطرق عملهم. لكن، قبل تلك الحادثة بنحو سنة، في 5 شباط 2006، كانت حادثة أمنية أخرى شهيرة في الأشرفية. يومها لم يخرج أمنيون ولا عسكر ولا أصحاب جزمات. بل خرج نواب وأصحاب ربطات عنق من أعتى الثوار ضد الأمن وبوليسييه. اعتمدوا الأسلوب نفسه. ساقوا اتهامات ضد سليمان فرنجيه وكلاماً عن أدلة وقرائن عن سوريا وجماعتها وسوى ذلك من تخرصات وهذيان. واشتغل بها الإعلام. وسقطت في النسيان بعد أعوام، بعدما كانت ساقطة منذ إعلانها في ميزان الحقيقة والحق.
ماذا نتعلم من كل ذلك؟ أولاً، أن السلطات عندنا، كلها، مسحورة بالنموذج الغوبلزي في الإعلام والتوجيه والبروباغاندا والتضليل والتمويه وذرّ الرماد وتعمية العيون. لم تقرأ أسلوباً غيره. ولم يستهوها قط إعلام مغاير. إما أن يكون ذلك معزوّ إلى نازية عميقة جينية في طبائع حكامنا ومسؤولينا. وإما لأنهم يعتبروننا شعباً متخلفاً يمكن الكذب عليه مرة واثنتين وعشرات المرات. ونحن نلاقيهم فعلاً في ذاكرتنا القصيرة، وفي لامسؤوليتنا المدنية والمواطنية. إذ لا لزوم لأن نحاسب. ولا أن نغفر. يكفي أننا ننسى، حتى الخرف الوطني.
في اليومين الماضيين، وإثر جريمة انتحاريي القاع، شيء من ذلك المشهد المقيت كاد يرتسم في الأفق. شائعات وتسريبات وسيناريوهات وتناقضات علنية بين مسؤولين جازمين بامتلاك المعرفة واحتكار الحقيقة وكل الحقائق. فضلاً، عن أخبار عن إنجازات وبطولات وعراضات واستعراضات. وكلها، بكل شوائبها وهنّاتها وفجواتها، تقع على إعلامنا لتسويقها وتصديقها وتضخيمها والاستثمار. نموذج واحد للإضاءة: في خلال يومين، أعلن عن توقيف أكثر من 400 إنسان سوري. سلموا جميعاً "إلى المرجع المختص". معقول؟ أين وضعوا؟ ما مصيرهم؟ فضلاً عن انتهاك أصول المحاكمة والملاحقة والأوصاف. بين مشتبه فيه يصير إرهابياً في بيان، وأحكام مسبقة بلا محاكمات ولا حقوق دفاع. في زمن الوصاية المفترض بائداً، كان هذا النموذج لتمرير أو لتغطية. سقط ذلك النظام. ألا يفترض أن تسقط التمريرات والتغطيات؟ ألا نستحق نموذجاً أفضل من غوبلز؟!