لم تكتفِ معامل الإسمنت في شكا بهدم بيئة المنطقة وتشويه الجبل جرّاء المقالع والكسّارات التي استحدثتها، ولم تشفِ غليلها بتلويث المياه والهواء والتسبّب بأمراض تنفسيّة وسرطانيّة، بل ها هي تزيد مخالفة جديدة إلى رصيدها، منتهكة حقوق أهالي منطقتي الكورة والبترون عبر وضع يدها على مواردهم المائيّة لتسيير استثماراتها الخاصّة.مسرح الانتهاك الجديد هو نبع الجرادة في شكّا، الصادر فيه مرسوم عام 1998 في عهد إيلي حبيقه يوم كان وزيراً للطاقة، يقضي هذا المرسوم بتحويله إلى منفعة عامّة لتزويد أهالي الكورة بمياه الشفة، إلّا أن قسطلاً ممتدّاً من إحدى آبار النبع كان كفيلاً باختلاس موارده المائيّة وجرّها إلى معامل شركتي الترابة الوطنيّة وكيماويات لبنان، والإمعان في حرمان المنطقة التي تعاني انقطاعاً مزمناً في المياه.
في عام 1974 استحصلت الشركتان المملوكتان من آل ضومط على ترخيص بإشغال أملاك عموميّة على مساحة 7130 متراً مربعاً في منطقتي البترون وشكا العقاريتين بموجب المرسوم الرقم 7731، لتمرير قسطل مياه تحت الخطّ الحديدي لسكة الحديد على الطريق الساحلي لجرّ مياه نبع الجرادة في شكا إلى معاملهما، ذلك قبل أن يصدر المرسوم 13501 عام 1998 الرامي إلى إنشاء ثلاثة خزانات بسعة 2000 متر مكعّب لكلّ منها في نبع الجرادة بهدف تغذية قضاء الكورة بمياه الشرب. عام 2014 قرّر وزير الأشغال العامّة والنقل غازي العريضي، دون الرجوع إلى وزارة الطاقة، إصدار المرسوم 11662 معدّلاً بموجبه موقع قسطل جرّ المياه ليمرّ تحت عقارات خاصّة وصولاً إلى معامل الشركتين.
بعد تلويثها البيئة... أيدي معامل الترابة في شكّا تمتد إلى المياه الجوفيّة

قانوناً تشوب المرسوم 11662 جملة من المخالفات، أولاً لعدم ارتكازه إلى أي نصّ قانوني يبرّره، اذ اتخذ خلافاً لجوهر القوانين والتشريعات المنظّمة للأملاك العامّة، ثانياً لارتكازه إلى طلب الشركة الترخيص لها لإشغال قسم من الأملاك العامّة لمنفعة خاصّة خلافاً للقوانين، ثالثاً لصدوره تحقيقاً لغايات خاصّة لا صلة لها بالمصلحة العامّة، ما يضمن للشركة المستفيدة من الترخيص استمرار استغلالها لمياه نبع الجرادة وحرمان اصحاب الحق منها، رابعاً لصدوره عن سلطة غير مختصّة، إذ إن أي سلطة لا يمكنها ممارسة صلاحياتها إلا ضمن اختصاصها، فالمرسوم يتصل بشأن مائي ويستوجب موافقة وزارة الطاقة على الطلب. وخامساً لأنه أجاز للشركة التعدي على ملكيّة خاصّة المكفولة دستوراً.
يعدّ نبع الجرادة من الينابيع الغزيرة التي لا تنضب مياهها طوال السنة، وهو قادر على تغذية قضاء الكورة بأكلمه. بحسب المدير العام لمصلحة المياه جمال الكريدي "يتألف من 8 آبار، تستفيد منها كلّ من شكا وأنفه وبعض مناطق الكورة، إضافة إلى معمل هوا تشيكن ومنتجع لاس ساليناس، بموجب اشتراكات". ويشير إلى أن "معمل الإسمنت وشركة الكيماويات لا تستفيد من النبع بل من مياه بئر مجاورة له، لا صلاحية لمصلحة المياه عليه ويتغذّى من المياه الجوفيّة".
تنقسم الكورة إلى ثلاث مناطق: القويطع، والقلع، والوسط، حيث يقطن 70% من سكّان القضاء. يعاني هؤلاء أزمة مياه تشتدّ خلال فصل الصيف عموماً، فالمياه الآتية من وادي قاديشا ملوّثة بمجارير بشري، أمّا مياه نبع اسكندر في كوسبا، فتمرّ عبر شبكة قديمة مهترئة استحدثت في عهد الرئيس فؤاد شهاب في ستينيّات القرن الماضي، وتصل نسبة الهدر فيها إلى 50%، أمّا مياه الجرادة، المفترض أن تغذي مناطق الساحل والقلع، فهي إمّا محتكرة أو مهدورة، وتصلها المياه بمعدّل مرّة أو مرّتين في الأسبوع، وهو ما يردّه الكريدي إلى "سياسة التقنين التي تتبعها المصلحة بانتظار أعمال إعادة تأهيل النبع".
فيما لا يرى رئيس اتحاد بلديات الكورة كريم بو كريم أن "الوضع مأساوي في القضاء، طالما هناك حلول مُمكنة"، يؤكّد أن "المياه متوافرة لكن هناك إشكاليّة في شبكة المياه القديمة التي تغذي منطقة الوسط، وتمتدّ على مسافة 11 كيلومتراً وتعاني أعطالاً منذ التسعينيات، قبل أن يبدأ العمل على تنفيذ شبكة جديدة منذ سنتين بقرار اتخذ في عهد الوزير جبران باسيل لتغذية القلع والوسط". مشروع يتوقّع بو كريم أن "يحّل 90% من مشاكل المياه في الكورة".
في نيسان 2016 تقدّمت شركة كيماويات لبنان بطلب تجديد الرخصة الصادرة بموجب المرسوم 11662 لكن وزير الأشغال رفض الطلب باعتبار أن المرسوم أصبح عديم الصلاحية بعدما مضت مهلة الترخيص البالغة سنة واحدة ولم يجدّد بصورة قانونيّة، إلّا أن جولة في محيط النبع تبيّن أن القسطل ما زال ممدوداً وما زالت الشركة تستأثر بمياه النبع عبر قسطل بقطر 60 سنتيمتراً محتكراً بئراً بأكملها، إضافة إلى مستفيدين كثر، أغلبهم من المعامل المحيطة، مثل الهوا تشيكن ومنتجع لاس ساليناس المعتدي على الأملاك البحريّة في شكّا، فيما أهالي الكورة الأحق بالاستثمار تبعاً للمرسوم الصادر، يعانون شحاً، وتصلهم المياه عبر قسطل بقطر 12 سنتيمتراً يضخّ المياه إلى فيع والمناطق المجاورة لها.