تستعين الدبلوماسية الأميركية بالصواريخ والعقوبات المالية لتحقيق أهدافها، فيما تستعين الدبلوماسية الإيرانية بحرس ثوريّ يصل إلى حيث لا يجرؤ الآخرون، أما الدبلوماسية السعودية فتتكل على التكفيريين من جهة والدبلوماسية الفرنسية من جهة أخرى.ففي ظل اعتياش جزء من الاقتصاد الفرنسي على المكارم الوهابية، سواء كانت عقود تسليح أو بقشيشاً في مقاهي الشانزليزيه ومتاجره، ما عاد يمكن التعامل مع الدبلوماسية الفرنسية سوى باعتبارها مبعوثاً سعودياً يحاول أن يأخذ بالسلم ما يعجز السعوديون عن أخذه بالحرب. ولا قيمة بالتالي لزيارة وزير خارجية فرنسا جان مارك إيرولت إلى بيروت اليوم سوى أنها مناسبة لمعرفة ما إذا كان يوجد أو لا يوجد تغيير في السياسة السعودية تجاه لبنان. فوزير خارجية السعودية لا يستطيع زيارة بيروت ولقاء جميع الأفرقاء، فيما وزير خارجية فرنسا قادر على ذلك. ولغة آل سعود لا تساعدهم في إيصال أفكارهم بسلاسة، فيما اللغة الفرنسية تتيح اللعب على الكلام، علماً بأن الأزمة اللبنانية لا تحتاج إلى وسطاء أو مؤتمرات أو غير ذلك؛ في حال كان الرئيس سعد الحريري يعجز عن النطق بكلمتَي السر الضروريتين للحل ـــ وهما: عون رئيساً ـــ يمكنه أن يرسل بدر ونوس أو أي آخر من فريقه السياسي إلى الرابية لا أن يعذب وزير خارجية فرنسا.
وفي وقت تؤكد فيه مصادر الرئيس الحريري أن ما من تغيير أبداً سواء في الموقف الحريريّ أو في الموقف السعوديّ تجاه الملف اللبنانيّ، يراهن المتفائلون دوماً على «ليونة سعودية ما» توسع هامش التحرك الفرنسيّ لبنانياً، علماً بأن هؤلاء يفصلون الملف اللبنانيّ عن الملفين السوري والعراقي ويضمّانه إلى الملف اليمني، فيتحدثون عن تقديم السعوديين تنازلاً في لبنان مقابل تحقيقهم مكسباً في اليمن. وهذه جميعها مجرد تحليلات لا تستند إلى أيّ معطيات عملية جدية. ولا بدّ من التذكير هنا أن زيارة وزير الخارجية الفرنسي كانت مقررة أثناء الإعداد لمؤتمر فرنسي من أجل لبنان ترعاه الأمم المتحدة، إلا أن المؤتمر طار وبقيت الزيارة التي تتألف من جزءين: الأول يتعلق باستكمال العمل في ملفات اللاجئين السوريين القديمة، والثاني النقاش في الملف الرئاسي وسط اعتقاد فرنسي بأن الوقت أكثر ملاءمة الآن مما كان عليه منذ عام، علماً بأن من يسوّقون للدور الفرنسي يتحدثون عن تبادل فرنسي ـــ أميركي ـــ روسي للأدوار وتنسيق رفيع المستوى.
وكانت الدبلوماسية الفرنسية قد صفعت نفسها بنفسها ثلاث مرات فوق السماء اللبنانية خلال عام واحد: أول مرة حين زار الموفد الفرنسي جان فرنسوا جيرو بيروت في حزيران 2015، معتقداً أنه قادر على إخراج الأرانب من قبعته، قبل أن يختفي ولا يسمع أحد عنه خبراً إضافياً. المرة الثانية حين بادر الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلى الاتصال بالنائب سليمان فرنجية، غداة مبادرة الحريري الرئاسية، باحثاً عما يمكنهما الحديث بشأنه ربع ساعة كاملة، ظناً منه أنه يقطفها طازجة، وسيكون عراب اتفاق وصول فرنجية إلى قصر بعبدا. إلا أن المبادرة سقطت أو جمّدت، وبدت فرنسا غير مؤثرة في شيء. أما الصفعة الثالثة فتمثلت في تسريب الفرنسيين خبراً عن نيتهم عقد مؤتمر من أجل لبنان في ما يشبه استدراج العروض من المعنيين بالتسوية اللبنانية، إلا أن أحداً «لم يعبّرهم» أو يسأل عن مؤتمرهم، فعمدوا إلى نفي الخبر من أساسه.
ولا شك في أن زيارة وزير الخارجية اليوم خالي الوفاض ستكون الصفعة الرابعة التي توجهها الإدارة الفرنسية إلى نفسها. ففي ظل تعدد الملفات الحامية في المنطقة والعالم، كان يمكن الفرنسي أن ينكفئ لمعالجة أزماته الاقتصادية والأمنية، أو كان يمكنه تجاهل التعقيدات اللبنانية برمتها، لكنه يندفع للقول «إنه هنا وما طالع بيده شيء». ويشير أحد أصدقاء الدبلوماسيين الفرنسيين إلى انفصام حقيقي يصيب هؤلاء حين يتعلق الأمر بلبنان؛ فهم تارة يتحدثون عن رئيس وسطي يرعى تسوية طويلة الأمد بين حزب الله وتيار المستقبل تعيد توزيع المهمات أمنياً واقتصادياً، وطوراً يعتبرون استرضاء العماد ميشال عون مفتاحاً للحل. وحين يفاتحهم أحدهم بانفصامهم يقولون إن استرضاء الجنرال يمكن أن يشمل تسميته لرئيس التسوية.
بالعودة إلى زائر اليوم، وزراء خارجية كثر ـــ أكثر تأثيراً في الملف اللبناني من الوزير الفرنسي ـــ يزورون بيروت بلا طبل وزمر. إلا أن تقاليد الدولة المنتدبة السابقة تستوجب تسليط الأضواء على قصر الصنوبر اليوم وغداً. لكن لا بدّ من تحويل احتفالية «المراكيز» إلى مناسبة للتذكير بأن دولة فرنسا «العظمى» لا تملك أي أوراق قوة أو ضغط، أو أقله مونة على واحد من الأفرقاء السياسيين العشرة الفاعلين في البلد. بيروت التي يزورها إيرولت اليوم لم تعد بيروت رفيق الحريري التي لا ترد لجاك شيراك طلباً، وما جمع الحريري وشيراك هو الأعمال طبعاً لا النقاشات الفكرية أو القراءات الأدبية. ففي بيروت اليوم ثمة أصدقاء للأميركيين والإيرانيين والسعوديين والسوريين والإنكليز والأتراك. لكن لا يوجد صديق مؤثّر واحد للفرنسيين. وعليه يمكن أن تضاء صخرة الروشة بألوان العلم الفرنسي في حال رغب محافظ بيروت في تبييض وجهه مع الملحق الثقافي في السفارة الفرنسية، ويمكن أن يطير وزير الخارجية جبران باسيل على عجل إلى باريس عاصباً رأسه بـJe suis Charlie، ويمكن أن تستنفر القوى الأمنية لحراسة جدران السفارة الفرنسية من طبشور أصدقاء جورج عبدالله، ويمكن أن ينظم قداس سنويّ في بكركي على نية فرنسا، لكن لا يتجاوز الأمر هذه الهوامش. ففي ظل استمرار الأزمة الإيرانية ـــ السعودية وعدم وجود أي مؤشر إلى نية السعوديين الاعتراف أخيراً بالتوازنات اللبنانية وتصحيح التمثيل السياسي، يرجّح أن تقتصر نتائج الزيارة الفرنسية على زحمة سير إضافية في منطقة المتحف.