■ متى بدأت تانيا صالح تشعر بحبّها للموسيقى والفن؟البداية كانت مع صوت والدتي التي كانت تؤدي في المنزل أغنيات فيروز وأخرى طربية وأجنبية. لاحقاً، وفي طريقنا إلى سوريا هرباً من الحرب الأهلية، كانت والدتي في السيارة تستمع إلى أغنية «ردّني إلى بلادي» لفيروز وتبكي. يومها، بدأت أشعر بمدى تأثير الموسيقى والكلمات وبسوء الأوضاع في بلدنا. وأصبحت جميع أعمال الأخوين الرحباني من دون استثناء تعبّر عنّي. وحين هربنا أيضاً إلى السويد، حيث عمل والدي صحافياً، كنت أستمع إلى أغنية «بحبّك يا لبنان» يومياً على مدى أشهر، وأبكي بشدّة، إلى درجة دفعت والديّ إلى العودة إلى بيروت. رغم صغر سنّي، كنت أدرك منذ ذلك الحين مدى تأثير لبنان فيّ.

■ ألهذا التأثير علاقة ببقائك فيه اليوم في ظل كلّ هذه الظروف الصعبة؟
نعم. في كلّ مرّة أسافر فيها، أقول لنفسي الحمد لله أنّ لدي بلداً أعود إليه رغم كل القرف. أحاول أن أرى الأمور الجميلة، لأنّ هذا البلد أعجوبة بحد ذاته، لناحية ولادته وسير الأمور فيه، حتى المبدعين الذين يُخرجهم إلى العالم في مختلف المجالات.

■ برأيك، لماذا لم يُترجم هذا الإبداع في تحسّن الأوضاع هنا؟
لأنّنا ببساطة شعب يبيع ولا يشتري. لدينا قدرة كبيرة على الخلق والبيع، لكننا نفتقدها لجهة التنظيم والوحدة والتفكير في المستقبل. وهذا عائد إلى كل ما مررنا به على مدى التاريخ. المواطنون يعرفون تاريخهم السيّء ويعتقدون ربّما أنّ لا شيء سيتغيّر.

■ لقد استطعت من خلال أغنياتك التعبير عن هذا المشهد اللبناني من دون التحيّز إلى أي من الأطراف السياسية. ولعلّ أبرزها كان «عمر وعلي» التي تشبه واقعنا اليوم أكثر من السابق. أخبرينا عن هذا العمل؟
بدأت العمل على هذه الأغنية إثر الاجتياح الأميركي للعراق في 2003. شعرت بأنّ اللعب على التفرقة بين السّنة والشيعة انطلق، وهو ما امتد اليوم إلى مختلف الدول العربية. حتى أنّه في بعض البلدان اختُرعت هذه القصة للإيقاع بين الناس. باختصار، هذه الأغنية باتت صالحة اليوم أكثر من أي وقت مضى.

■ بالعودة إلى بداياتك، لا يمكننا إغفال محطّة أساسية تتمثّل في العمل مع زياد الرحباني. كيف أثّر فيك هذا الإنسان على الصعيدين الشخصي والمهني؟
هو مدرسة كبيرة جداً. بعد العمل معه، صار الوقوف على المسرح أسهل، كما أنّني تعلّمت منه أموراً عدّة تتعلّق بالعمل مع الكورال في الأوركسترا وفي الاستديو، إضافة إلى التمثيل وإدارة الممثلين، وطريقة التعاطي مع الناس أثناء العمل. لا أعتقد أنّ هناك شخصاً يزيده موهبة أو إبداعاً؛ هو يكتب ويؤلّف موسيقى ويوزّعها ويمثّل ويخرج. بعد التعرّف إليه، صار لقاء أي فنان سهلاً. هو فنان عالمي حقيقي، لكنّه مخطئ بحق نفسه لأنّه لم يستطع الخروج من الإطار الذي وضع نفسه فيه. ربّما هو لا يريد ذلك لا أدري.
منذ أن بدأت أستمع إلى مسرحيّاته، ومن ثم التعرّف إلى موسيقاه، شعرت بأنّ هناك رابطاً روحياً بيننا ورغبت في لقائه. وبالصدفة، عرضت عليّ إحدى الصديقات إجراء اختبار للانضمام إلى الكورال في مسرحيّته «بخصوص الكرامة والشعب العنيد». بعدها، عملت معه في «لولا فسحة الأمل»، وشاركت في كورال ألبومي الراحل جوزف صقر «بما إنّو»، و«إلى عاصي» لفيروز. وفي النهاية، قرّرت أن أستقلّ مهنياً لأنّني لا أحب العمل في ظلّ أحد. زياد تفهّمني، وساعدني في هذا الموضوع. على المستوى الإنساني، زياد صادق جدّاً، وواضح، وموهوب، وصريح، ومرح. لا يمكن للمرء ألا يحبّه. أعتقد أنّني لا أحب شخصاً أكثر منه.

■ في ألبومك الأخير «شوية صور» الذي تطلقينه في بيروت غداً، نلاحظ أنّك مزجت بين أنماط موسيقية مختلفة. لا بد أنّك متأثّرة بفنانين كثر؟
القائمة طويلة جداً. لكن الأبرز هي الفنانة الكندية جوني ميتشيل التي أعتقد أنّني أشبهها كثيراً. فهي تكتب وتؤلف الموسيقى وترسم أيضاً. اشتغلت في مختلف أنواع الموسيقى، وبقيت رافضة دخول النظام الأميركي لصناعة الموسيقى. وقد حوربت هذه المرأة كثيراً، لأنّها تعرف هؤلاء جيّداً وتضع لهم حدوداً وتكشفهم. بعيداً عن الفن، أشعر بأنّ طريقة تفكيرها قريبة جداً من طريقة تفكيري، وهذا ما ألمسه في مقابلاتها.
السيّدة فيروز مثل مهم جداً في حياتي. صحيح أنّها لم تشارك في الكتابة والتلحين، غير أنّها غنّت أجمل الألحان بإحساس لا مثيل له، فيما استطاعت الحفاظ على مستواها. لا أقدر أن أتخيّل أنّه سيأتي يوم وتختفي فيه فيروز.

■ أنت فنّانة تعبّر عن معتقداتها بطريقتها الخاصة من خلال الأغنيات التي تعمل عليها من الألف إلى الياء. بين الأغنية الملتزمة والجديدة، أين تصنّفين نفسك؟

متأثّرة جداً بالكندية جوني ميتشيل وبالسيّدة فيروز


أنا لا أحب أن أقول إنّني فنانة ملتزمة. لأنّ العرب الذين يعتبرون أنّهم فنانون ملتزمون ليسوا صادقين بمعظمهم. أنا ببساطة أنجز أغنيات لبنانية تتناول مجتمعي بطريقة واقعية ومعاصرة، وهي مختلفة طبعاً عن السوق. السوق لا تعني لي شيئاً لأنّ غالبية ما تحتويه لا علاقة له بالفن والثقافة والتطوّر. والأهم أنّ الأغنية اللبنانية اليوم لم تعد موجودة تقريباً. مهمّتي كلبنانية السير على هذه الطريق، وعدم تطبيق كل ما أراه في الغرب على الأعمال التي أنجزها. صناعة الموسيقى والسينما في الولايات المتحدة شريرة، وعملت جاهدةً على تحصين ولديّ طارق (18 سنة) وكريم (12 سنة) تجاه هذا الخطر.

■ أنت تواجهين «أشرار» الإنتاج في العالم العربي منذ زمن، وترفضين الرضوخ لما يطلبه المموّل. وقد أطلقت أخيراً حملة إلكترونية لتمويل ألبومك «شوية صور» عبر موقع «زومال». هل ستكرّرين هذه التجربة؟
لقد نجحت التجربة طبعاً، لكن من الصعب تكرارها. سألجأ إلى طرق أخرى لتمويل ألبومي المقبل لأنّني لا أستطيع أن أطلب من الناس المزيد من الدعم المالي. هذه وسيلة جيّدة يمكن لصنّاع الفن غير الاستهلاكي اللجوء إليها، لا سيّما أنّنا بحاجة لتوسيع هذه المساحة.

■ هل تستطيعين وغيرك ممن يقدّمون أعمالاً مشابهة النجاح في مواجهة رأس المال؟
أنا لست في مواجهة معهم، وبعيدة جداً عنهم. من حقّهم أن يفعلوا ما يريدون، لكن من حقّنا أيضاً أن نكون موجودين. ليس من حقّهم تشويه الذوق العام.

■ يُعتبر «شوية صور» مختلفاً عن الألبومات الثلاثة السابقة. ما هي ظروف ولادة هذا العمل وما الذي أردت إظهاره عبره؟
انطلقت الفكرة عام 2013 عندما طلبت منّي الإعلامية جيزيل خوري إنجاز أغنيات جديدة لمهرجان «ربيع بيروت». هكذا، خرجت أغنيات حب حنونة وحقيقية تعبّر عنّي كامرأة وكإنسان يعيش على هذه الأرض. واستوحيت أيضاً من علاقة جيزيل بالراحل سمير قصير. وحاولت توصيل العمل إلى اللبنانيين في البرازيل، لا سيّما أنّه يتضمّن موسيقى الـ«بوسا نوفا»، وحرصت على ترجمته إلى البرتغالية.

■ هل عبّرت أغنية «شبابيك بيروت» في الأسطوانة عن علاقتك بهذه المدينة؟
صحيح. في هذه الأغنية حاولت تسليط الضوء على العناصر الجميلة التي تعلّقني بعاصمة بلدي أهمّها حالتها مع طلوع الصباح عندما يكون كل شيء ساكناً، وتكون بيروت حلوة ورصينة ونظيفة وهادئة وصوتها جميل. لكن عندما تبدأ بالاستيقاظ، تتحوّل إلى حالة البشاعة والنشاز. أنا أحب بيروت في الحالة الأولى. إذا نظرنا إلى الناس في هذه الحالة، نجد أنّهم مختلفون جداً لكنهم قادرون على العيش سوياً براحة تامة، من دون تدخّل هذا وذلك. كل التفاصيل تكون جميلة وفيها الكثير من الذوق. أحياناً لا نستطيع أن نفهم كل هذه التناقضات. هنا، لا بد أن ألفت إلى أنّه لمناسبة مرور عشر سنوات على اغتيال سمير قصير، سأشارك في عمل بإشراف إيفان واليسار كركلا هو عبارة عن تكريم لبيروت في 6 حزيران (يونيو) المقبل. والتكريم مستوحى من كتاب «بيروت» لقصير، وسأكون حاضرة من خلال أغنية فرنسية لباربرا أعيد توزيعها. سأجسّد مرحلة الانتداب الفرنسي في بيروت، لكنني سأترك اسم الأغنية مفاجأة.

■ تانيا، أنت نموذج نسائي مستقل، في الحياة العادية وفي الفن. ما هو موقفك من الجرائم التي تتعرّض لها اللبنانيات في الآونة الأخيرة؟
أوّلاً، لا بد من تقدير جهود جمعية «كفى» لتعزيز الوعي إزاء ما تتعرّض له اللبنانيات من عنف أسري. لكن قبل الحديث عن التعنيف، علينا أن نعي أنّ لبنان يحتل مراكز متدنية جداً عالمياً لناحية المساواة بين الجنسين. المرأة في لبنان تُعامل كمواطن من الدرجة الثانية. مثلاً، لا يحق لها أن تمنح الجنسية لأولادها. وهناك أيضاً قوانين المحاكم الدينية المعنية بالأحوال الشخصية التي تنتقص من حقوق المرأة أيضاً. أنا على الصعيد الشخصي، لو لم أتزوّج مدنياً لما استطعت الخروج من هذه العلاقة بخير وسلامة. وفي النتيجة، يأتي العنف ضد النساء الذي لم نستطع حتى الآن أن نقرّ بخصوصه قانون منصفاً وشاملاً. وبما أنّ الأديان عنصر أساسي في هذه اللعبة، لن تستطيع القوانين الجدية إبصار النور. قبل المطالبة بأي إصلاحات في لبنان، علينا أوّلاً استبدال النظام الطائفي بآخر علماني. القصة كلّها تبدأ في المنزل.