غزّة | في الأعوام الأخيرة، بدأت خريطة العالم تتشكّل من جديد، فيما لا تزال الصحافة الفلسطينية تعيش في منتصف التسعينيات، إذ يقبض قانون «النشر والمطبوعات الفلسطيني» لعام 1995 على مصيرها ومصائر العاملين فيها. حوّل ذلك القانون، الذي أقرّته السلطة التنفيذية، معظم الصحافة الفلسطينية إلى ذيلٍ للسلطة وأحاطتها بكثيرٍ من المحرّمات السياسيّة والأمنية. غاب الحسّ النقدي، وحضر التسطيح الإعلامي للقضايا الفلسطينية. كما استحال «الحظر» بدلاً من «الإباحة» جوهراً لمواد القانون الواحدة والخمسين التي استثنيت منها محدّدات العمل المرئي والمسموع.

كلّ ما سبق دفع أخيراً بـ«مركز مدى لتنمية الحريات الإعلامية» إلى إطلاق حملة «بدنا قانون إعلام يعزّز حرية التعبير».
وتأتي هذه الحملة، في وقتٍ تغصّ فيه الساحة الفلسطينية بالانتهاكات بحقّ الجسم الصحافي، إذ تمتطي السلطتان في الضفة وغزّة صهوة القانون، وتنتقيان منه المواد «الفضفاضة» التي تجعل الصحافي تحت رحمة التفسيرات المتعدّدة، من قبيل مفاهيم «الإساءة إلى الوحدة الوطنية أو التحريض على ارتكاب الجرائم وإثارة النعرات الطائفية»، و«زعزعة الثقة بالعملة الوطنية والإساءة إلى مبادئ الحرية والمسؤولية الوطنية».
بذلك، تبدو المادّة السابعة من القانون المذكور «بعبعاً» للصحافيين وأداة من أدوات القمع، ولا سيّما أنّها تعجّ بـ«المحظورات» والقيود الصارخة على حرية الصحافة، من دون أن تتوقّف عند مواطن أو شروط تلك القيود، ما يمكّن السلطة من تكييف مواقف معينة لمحاكمة واعتقال صحافيين وإغلاق مؤسسات إعلامية، وهو ما حصل أخيراً مع المصوّر الصحافي محمد عوض (الأخبار 11/5/2015).
في حديثه إلى «الأخبار»، يقول المدير العام لمركز «مدى»، موسى الريماوي، إنّ «الحملة تسعى إلى إصلاح قانون الإعلام وممارسة الضغط الناعم على السلطات، كي يكون الجوّ لاحقاً مهيأً لإقرار قانون واحد وموحّد ينظّم العمل الإعلامي في الأراضي الفلسطينية». ويؤكّد الريماوي أنّه «يصعب الحديث عن حماية الصحافيين والحدّ من الرقابة الذاتية من دون وجود قانون عصري للإعلام لا يتضمّن عقوبات سالبة للحرية».
ومن المعروف أنّ السلطة القائمة تتعامل مع الصحافيين بالقبضة الأمنية، مستندةً إلى المواد الخاصة بـ«الجزاءات والعقوبات الصحافية» في القانون، والتي تقرّ عقوبة السجن لفترة تصل أحياناً إلى ستة أشهر، رغم أنّه يمكن الاستعاضة عن ذلك بالغرامات الماليّة. ولا يمكن هنا إغفال الشرخ القانوني الحادّ بين الضفة وغزّة بفعل الانقسام السياسي، حيث لا يزال صحافيون يُعتقلون ويُحاكمون بناءً على قانون العقوبات الأردني رقم «16» لعام 1960 في الضفة، وقانون العقوبات الفلسطيني رقم «74» لعام 1934 في غزّة. والقانونان عفا عليهما الزمن، ويستأهلان كثيراً من التعديل في ما يتعلّق ببنود «القدح والذم والتشهير».
في المقابل، يبدو حظر «قانون المطبوعات والنشر الفلسطيني» لكثير من المعلومات عن الصحافيين ضرباً من الجنون، في ظلّ الثورة المعلوماتية الهائلة التي نعيشها، والحجّة دوماً جاهزة: «المسّ بقضايا الأمن القومي».
وعلى الرغم من أنّ المادتين الثانية والرابعة تتحدّثان عن حرية العمل الصحافي، غير أنّ المواد التي تتبعهما تعارضها، وخصوصاً في ما يتعلّق بـ«حظر نشر أي معلومات سرية عن الشرطة وقوات الأمن العام أو أسلحتها أو عتادها أو أماكنها أو تحركاتها أو تدريباتها». المفارقة هنا أنّ اتفاقية «أوسلو» الموقّعة بين الفلسطينيين والإسرائيليين عام 1993 أقرّت حق «إسرائيل» في الاطلاع على أدقّ تفاصيل تلك «الأمور السرية»، مثل أسماء ورتب أفراد قوات الأمن، وأنواع الأسلحة وأرقامها، ما يعني تعمّد تغييب السلطة لهذه المعلومات عن الصحافة الفلسطينية.
وبناءً على الأزمات البنيوية التي يعاني منها القانون، برزت حاجة ماسّة إلى إقرار قانون خاص حول «حقّ الصحافيين في الوصول إلى المعلومات»، وهو ما اشتغل عليه مركز «مدى» منذ فترة طويلة، وأعاد إثارته في هذه الحملة. ويشير الريماوي إلى أنّه تمّت «صياغة مسودة قانون حول حق الصحافي في الحصول على المعلومة، بعدما أجرينا دراسات دقيقة تتناول هذه المسألة، وذلك بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني».
لكن هل ظلّت هذه المسودة حبيسة الأدراج؟ يجيب الريماوي بأنّه «للأسف، لا تزال المسودة النهائية على طاولة مجلس الوزراء، على الرغم من أنّه تم تشكيل لجنة وطنية لدراستها، وأفضت إلى صياغة مسودة أخرى كانت أقلّ قوّة من مسودتنا».
على خطٍ موازٍ، ظلّت كذلك مسودات قانون الإعلام المرئي والمسموع، والمجلس الأعلى للإعلام بعيدةً عن أروقة مجلس الوزراء أو المجلس التشريعي، ما يعني غياب أي قانون إعلامي فلسطيني يواكب انتفاضات العصر المرئية والإلكترونية. هنا، يلفت الريماوي إلى أنّ توجّه الحملة يقضي بعزل مواقع التواصل الاجتماعي عن أي قوانين إعلامية، باعتبارها مساحة خاصة لا يحقّ لأحد استباحتها، موضحاً أنّ الحملة تهدف أيضاً إلى كسر القيود المفروضة على إصدار الصحف والمطبوعات وأصحابها، أملاً أن تصبح «صاحبة الجلالة» في فلسطين «سلطة رابعة»، غير ملحقة بالسلطات الفلسطينية الثلاث.