تبدو إليزابيث ريتشارد (٥٦ عاماً) متحمّسة للعمل في لبنان حيث باشرت مهماتها الأسبوع الماضي، وهي، كما تقول في شريط السفارة الأميركية التعريفي المصوّر، «متشوّقة للتعرف على ثروة لبنان الطبيعية والثقافية» (تمرّ في خلفية الصورة الأرزة وصخرة الروشة ونساء يلففن ورق العنب في مونتاج بدائي رديء). السفيرة الأميركية الجديدة، التي زارت «بلاد الأرز» عام ٢٠٠٧ ضمن مبادرة أميركية لتدريب قوى الأمن الداخلي وتسليحها، تبدو جازمة في أول رسالة وجّهتها للشعب اللبناني إذ قالت: «فيما يعمل لبنان للمحافظة على أمنه وبناء مؤسسات الدولة القوية (...) سيستمر الشعب الأميركي بالوقوف معكم جنباً الى جنب». كلام دبلوماسي جميل يخفي نيات غير مبيّتة لدى السفيرة الجديدة، خصوصاً في ما يتعلق بمفهومها لـ»المحافظة على الأمن» و»مؤسسات الدولة القوية». فريتشارد كانت أكثر وضوحاً في شهادتها أمام الكونغرس بعد ترشيحها للمنصب قبل أشهر. هناك، أعلنت المتخصصة في القانون أجندتها الفعلية وفنّدت مشاكل لبنان «الأساسية»، واعدةً بأنها ستعمل على حلّها كلّها! كيف؟ الصورة واضحة جداً لدى ريتشارد، فكلّ ما يعاني منه اللبنانيون حالياً في الاقتصاد والأمن والسياسة، سببه واحد: المقاومة.في الاقتصاد، كشفت ريتشارد عن معادلة سحرية لأزمة لبنان، إذ قالت «هدفنا هو تفكيك شبكة حزب الله المالية الدولية ومساعدة المؤسسات اللبنانية والشعب اللبناني. وهذا سيساهم مباشرة في تفعيل الازدهار الاقتصادي في لبنان». كيف سيؤدي استهداف التمويل الدولي للمقاومة الى إنعاش الاقتصاد في البلد؟! لم تشرح ريتشارد ذلك في شهادتها، فلم يُطلَب منها ذلك في بلادها، ولم تتحرّك الدولة اللبنانية، حكومة أو سلكاً دبلوماسياً، لتسائل دبلوماسية أعلنت جهاراً أنها ستعمل من داخل لبنان على محاربة أحد الأحزاب اللبنانية الممَثلة في البرلمان والمشاركة في الحكومة! لم يجرؤ أحد على طلب ولو استفسار حول كلام السفيرة. قالت ريتشارد بلهجة الممسك بأمور لبنان وبالوقاحة الأميركية المعهودة إنها ستعمل جاهدة على «أن لا يخترق حزب الله القطاع المصرفي اللبناني»، لأن ذلك «من مصلحة لبنان والولايات المتحدة». رفعت السفيرة الجديدة العصا في وجه الدولة اللبنانية قبل أن تطأ قدماها البلد المضيف، وما اهتزّت «سيادة» أحد من المسؤولين.
بلغت السفيرة الجديدة من الفوقية حدّ التحدّث بالنيابة عن اللبنانيين

في الأمن، كانت لريتشارد فلسفتها الخاصة أيضاً. بالطبع، غابت إسرائيل عن مجمل كلامها حول التهديدات الأمنية المحدقة بلبنان، وحضر تهديد «داعش» و»النصرة». لكن السفيرة تبدو مطمئنة حيال تهديد التنظيمين المولودين من رحم «القاعدة». فهي مقتنعة بأن «الشراكة بين الولايات المتحدة وقوات الأمن اللبنانية من خلال دعم الكونغرس السخي، لعبت دوراً حاسماً في الحفاظ على أمن لبنان تجاه تلك التهديدات». إذاً، لا خوف على اللبنانيين من «داعش» و»النصرة»، فما هو التهديد الأول المحدق بالبلاد حسب ريتشارد؟ الجواب: حزب الله. «نشاطات حزب الله في سوريا تخلق مخاطر أمنية جدّية للبنان»، قالت السفيرة التي تعهّدت بدعم الجيش اللبناني كونه «المدافع الشرعي الوحيد عن لبنان».
«المشكلة الأساسية» الثالثة التي يعاني منها اللبنانيون، كما حددت ريتشارد، هي الفراغ السياسي وانتقاصٌ في استقلال لبنان وسيادته، وتلك أمور ستعمل على حلّها أيضاً، هذه المرة بالتعاون مع «الأصوات المنادية بالاعتدال والتقدّم». ضد من؟ ضد «حزب الله الذي ما زال يتدخّل في سوريا من دون موافقة اللبنانيين»، توضح ريتشارد. بلغت السفيرة الجديدة من الفوقية حدّ التحدّث بالنيابة عن اللبنانيين، ولم تضطرّ حتى إلى الاستعانة بأرقام (ولو مفبركة) تثبت صحة ما تعلنه عن مدى قبول اللبنانيين بتدخل حزب الله في سوريا أو رفضه. والخلاصة كما أخبرت ريتشارد أعضاء الكونغرس: حزب الله ذهب الى سوريا رغماً عن مشيئة غالبية اللبنانيين، وهذا ما ينتقص من سيادة لبنان واستقلاله.
عادةً، يشكو الدبلوماسيون الغربيون من عدم قدرتهم على فهم مجريات الأمور في لبنان، ومن تعقيدات تركيبته الاجتماعية ونظامه الاقتصادي ومشهده السياسي. إليزابيث ريتشارد لا تعاني من ذلك على ما يبدو، فرؤيتها واضحة وهدفها جليّ واحد: استهداف المقاومة اللبنانية بحزبها وأهلها وأموالها، وذلك بكافة الوسائل المتاحة.
في منصبها الرسمي الأخير قبل توكيلها بالوصاية على اللبنانيين، كانت ريتشارد مساعدة نائب وزير الخارجية للتنسيق في مكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية، وفي شهادتها أمام الكونغرس في تموز عام ٢٠١٥، فاخرت بإنجازات الخارجية وعدّدت المشاريع التي أشرفت بنفسها عليها، مثل: مبادرة تأهيل المناطق الصناعية وتطويرها، وخلق فرص عمل، وتفعيل التصدير في مصر والاردن وإسرائيل، وكإنجاز اتفاق بين «جنرال موتورز» لتأمين كمية هائلة من الطاقة الكهربائية لمصر، وتأهيل سكك الحديد في الجزائر، وشراء أطنان من الأرز العراقي، وتشجيع الاستثمارات في دول الخليج ودعم المبادرات الشبابية، والتعاون الطبي مع إسرائيل والامارات العربية... حضرت معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وغاب لبنان عن إنجازات ريتشارد ووزارتها العام الماضي، وها هي تأتي اليوم الى أكثر بلدان المنطقة عجزاً وليس في جعبتها سوى مشروع واحد سياسي (لا إنمائي) ووعود بالتسليح... وعصا مرفوعة!