فجأة، باتت أوروبا تبدو كأنها في حرب ضد عدو غير محدد؛ أربع هجمات يتبنّاها تنظيم "داعش" بين فرنسا وألمانيا في أقل من أسبوعين، بينما ينفذ آخرون هجمات "لا علاقة لها بالتنظيم"، كما يقول المسؤولون الرسميون.وفي سياق قد يكتنف شيئاً من "التراجيديا"، من سوء الحظ أنّ ما يحصل راهناً سبقه "البريكست"، وسط مخاوف من "تداعيات الدومينو" على المنظومة السياسية الأوروبية، بالتزامن مع بروز مشهد تبدو فيه القارة محاصرة من جانبين آخرين (كما يقول بعض من إعلامها أولاً): "هستيرية" أردوغانية تخطف الدولة التركية خوفاً من تكرار "الانقلاب الفاشل"، فيما يطل شبح "الجنون السياسي" من خلف المحيط الأطلسي عبر، دونالد ترامب. ويستحسن البعض إضافة "تأثير بوتين" على هذه المعادلة، والإشارة إلى صعود اليمين المتطرف في دول أوروبية "كنتيجة رئيسة لموجة الهجرة"، ليكمل عندها عناصر خريطة "الاختناق الأوروبي".
عند قراءة تلك الخريطة، يستنتج بعض الإعلام، وسياسيون وأكاديميون، أنّ أوروبا تستعيد اليوم "حاضر الزمن الماضي"، أي مرحلة ما بين الحربين العالميتين. لكن عن مرحلة "النار والدم" تلك، كان الأكاديمي الفرنسي ــ الإيراني، فرهاد خسروخافار، يشدد بدوره قبل يومين على وجوب تذكير الأوروبيين بأن ما عاشوه خلالها كان أقسى بكثير مما يواجهونه اليوم، وبالتالي فهو ينبه من مخاطر الحديث راهناً عن "حرب في أوروبا".
عملياً، إنّ تناول تلك "الحرب" بات رائجاً في الوقت الراهن، وهو يتزايد مع تراكم أعداد الهجمات الإرهابية ــ الجهادية في الدول الأوروبية. وعلى سبيل المثال، عقب الهجوم الإرهابي الذي شهدته فرنسا أمس، رأى الكاتب غيوم بيغو، في مقال في جريدة "فيغارو"، أنّ ما يحدث منذ عام يحمل "بذور حرب أهلية"، في وقت كان فيه المفكر الفرنسي (الإشكالي) روبير ريديكير يقول فيه (للصحيفة نفسها) إنّ "الاعتداء على الكنيسة هو بمثابة رسالة يوجهها الإسلاميون للمسيحيين، وهم يرغبون في رؤية فرنسا على مثال سوريا والعراق حيث يقضي المسيحيون في شبه مجزرة". ويضيف ريديكير أنّ "ما هو أقبح يتمثل في أنّ الأيديولوجيا الإسلامية تبحث عن سبل للقول إنّ المسلمين مضطهدون في العالم، علماً بأنّ الحقيقة الجيوسياسية مختلفة تماماً... ورغم أنّ فرنسا تشهد على ذلك حالياً، فإنّنا نعيش في حالة إنكار مستمرة: في كل مرة ممكنة، تبرّئ الحكومة، كما عدد من وسائل الإعلام، الإسلاميين من الاعتداءات، وذلك عبر اختزال حالات إرهابيين والقول إنهم غير مستقرين نفسياً".
(من باب حسن الظن) الأرجح أنّ روبير ريديكير يشير هنا بصورة أساسية إلى منفذ هجوم نيس الذي وقع قبل أقل من أسبوعين. فرغم تبنّي "داعش" لتلك "المجزرة"، ثبت أن شخصية محمد لحواج بوهلال (المنفذ) توحي بأنّه لا يصنّف ضمن الخانة الاعتيادية "للجهاديين" بالنظر إلى تركيبة شخصيته.
من جهة أخرى، يقول الباحث والأكاديمي الفرنسي، أوليفييه روا، في حوار أخير، إنّ "مجزرة نيس تندرج ضمن فكرتي عن أسلمة الراديكالية"، محذراً في الوقت نفسه من "خطر جعل كل هجوم مفتاحاً (للقراءة)، إذ إنّ للجهاديين خصائص مختلفة". وبينما يشرح أنّ هؤلاء "يُجَندون خاصة في صفوف أبناء الجيل الثاني للهجرة، فيما يُعتبر قاتل نيس من الجيل الأول الذي أتى إلى فرنسا"، فإنه يخلص إلى القول "إنّ الانسلاخ الثقافي يصحّ في حالته. (عند مثل هؤلاء) يوجد من دون شك رغبة في التطرف تدفع نماذج مختلفة إلى القيام بأفعال داعشية (بينما) يقوم داعش بتنظيم أو باستغلال هذا التطرف". ويبني روا طرحه على أنه "حين يلتقي هاجس (أو هوس) الإسلام بالانسلاخ الثقافي العنيف، فإنه يتحول إلى إرهاب، وإنّ العلمانية الفرنسية لا تساعد على إصلاح الأمور، ليس بسبب (تمظهرها الاستبدادي)، بل لمشاركتها في عملية الانسلاخ الثقافي للدين عبر رفضها ممارسته العلنية في المجال العام".
عند هذا المستوى، قد يلتقي أوليفييه روا وفرهاد خسروخافار الذي يرى، في سياق شرحه لما يراه استثناءً فرنسياً في أوروبا لناحية احتمالات تعرض الدولة الفرنسية لتهديدات إرهابية أكثر من غيرها، أنّ "قوة الهوية الوطنية الفرنسية ووزنها يطرحان إشكالاً اليوم"، مضيفاً أنّ "الطموح الفرنسي الاستيعابي لجميع الفرنسيين قد أصبح أكثر فأكثر في انعزال عن الواقع اليومي، وأنّ اتساع الفجوة هنا بات يقلق الجميع".
عموماً، رغم أنّ هذا الجدال يفتح على نقاش فرنسي ــ فرنسي (بصورة لا ينبغي أن تُشعر المسلمين بأنهم غير معنيين)، فلعلّ أكثر ما يدفع إلى عرضه هو "الاختزال العكسي"، خصوصاً في الوقت الذي قد يجد فيه غير الأوروبي نفسه في مواجهة تداعيات حرب غير واضحة أصلاً بين فرنسا و"التحالف الدولي" من جهة، و"الإرهاب الشرق أوسطي" من جهة أخرى.
ومن الجدير الإشارة إليه أيضاً أنّ نماذج مثل اندرس بريفيك في النروج (عام 2011)، أو الطائرة المدنية التي أسقطها مساعد الطيار الألماني فوق جبال الألب الفرنسية قبل أكثر من عام، أو حتى هجوم ميونخ الأخير، تلقي الضوء على تهديدات من طبيعة أخرى، قد يمكن الإشارة إليها بالحديث عن "مسعورين".
من سوء الحظ، ربما، أنّ العناصر "التراجيدية" تتراكم في الوقت الذي تخرج فيه أوروبا كمنظومة سياسية من "عهد السلم" الذي ساد منذ بداية التسعينيات التي تميزت بانطلاقة ناجحة للتجربة الأوروبية، لتدخل في مرحلة توتر جديدة.