في القمة العربية التي عُقدت قبل أسبوعين في موريتانيا، قال الرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي إن اليمن «يمثل رأس حربة في مواجهة المشروع الصفوي في المنطقة». تصريح هادي لا ينفصل عن الخطاب الخليجي واليمني الموالي للسعودية المواكب للحرب التي حملت شعار «القضاء على النفوذ الايراني في اليمن» بموازاة عنوان «عودة الشرعية». فالشعار الأخير كان عاجزاً وحده عن حجز الغطاء والدعم الاقليمي والدولي التي حظيت به حملة «عاصفة الحزم».وقد وعد هادي مراراً منذ ذلك الحين برفع العلم اليمني فوق جبال مران (تشكيكاً في «يمنية» هذه الجبال) التي تُعرف بكونها معقلاً لحركة «أنصار الله»؛ وهو «الوعد» الذي يتكرر حتى يومنا هذا، برغم تبدّل معطيات ميدانية وسياسية وازدياد التعقيدات. ففي وقتٍ يذهب فيه فريق هادي إلى محادثات سياسية مع فريق «أنصار الله» وحلفائهم، لا يزال الرئيس المستقيل يستخدم الخطاب الفئوي في التعاطي مع الحركة اليمنية التي تسيطر منذ نحو سنتين على محافظات برمّتها.
حتى ان الوكالات والصحف الأجنبية، قلّما تذكر أطراف الصراع في اليمن من دون أن تربط بين «الحوثيين» وإيران، عبر التأكيد على أنهم «حلفاء شيعة»، ما ثبّت البعد الإقليمي للحرب في البلد الذي يتعاطى معه الإعلام الغربي بوصفه ساحةً بين القوى الإقليمية الكبرى، متجاهلين، إلا في ما ندر، الصراعات الداخلية التي تؤدي دوراً كبيراً في المواجهة الحالية.
المسؤولون في حركة «أنصار الله» يُبدون تحفظاً كبيراً عندما يصل الحديث إلى علاقتهم بإيران. وتفضّل مصادر في الحركة عدم التطرّق إلى هذه القضية من دون الإحاطة بالعلاقات التاريخية مع طهران، «نظراً لحساسية الموضوع» ولما له من خلفيات دينية وعقائدية تضمّ خلافات أكثر بكثير من التوافق الذي قد يراه الناظر من بعيد.
وقد برزت إشارات عدة في الأشهر الماضية إلى أن هذه العلاقة تختلف عمّا يروّج له المعسكر المقابل. أكثر من تصريح جاء على لسان مسؤولين بارزين في الحركة، مثل المتحدث باسمها محمد عبد السلام والقيادي البارز فيها يوسف الفيشي، أوضح تمايزات بين حركتهم والمواقف الإيرانية المتعلقة باليمن. الفيشي طالب في آذار الماضي المسؤولين الايرانيين بـ«التوقف عن المزايدات واستغلال ملف اليمن، وتعلم الشجاعة والمسؤولية من (الأمين العام لحزب الله) حسن نصرالله الذي يتكلم لوجه الله». كلام المسؤول اليمني جاء في حينه للردّ على تصريحات لمساعد هيئة الاركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية مسعود الجزائري الذي قال بالتزامن مع عقد «أنصار الله» مفاوضات مباشرة مع مسؤولين سعوديين، إن إيران قد ترسل خبراء عسكريين إلى اليمن. «أنصار الله» علّقت على تصريحات الفيشي آنذاك مؤكدةً أنها «غير رسمية» وتعبّر عن آراء مطلقها فقط.
وفي أيار الماضي، نشرت صحيفة «ذي واشنطن بوست» الأميركية تقريراً بعنوان «كلا، الحوثيون ليسوا في الواقع دمىً إيرانية»، عرض فيه الكاتب توماس جونو، سلسلة «أدلّة» أراد عبرها تأكيد أن دعم طهران للحوثيين محدودٌ وأن تأثيرها في اليمن هامشي، خلافاً لكل البروباغندا الخليجية والغربية المعهودة في هذا المجال. ويشير التقرير إلى أن السعودية «استخدمت ادّعاء أن الحوثيين هم وكلاء إيران في اليمن لوضع حربها في إطار الجهود الرامية إلى مواجهة تأثير إيران». ويقول جونو في التقرير (الذي لم يلتفت إليه بالطبع أي من وسائل الاعلام الخليجية)، إن ما قاله السعوديون وسياسيون في الإعلام الغربي «غير دقيق لأن حرب اليمن تقودها مظلوميات محلية ومنافسة على السلطة».
«واشنطن بوست»: دعم طهران للحوثيين محدودٌ وتأثيره في اليمن هامشي

ورجع جونو إلى تقرير للجنة مجلس الأمن للعقوبات على إيران عام 2015 الذي يوضح أن إيران بدأت بتقديم كميات صغيرة من السلاح إلى الحوثيين عام 2009، وهو الدعم الذي تطور في عام 2011 بنوعية الأسلحة فضلاً عن الدعم المالي. ويشير التقرير إلى أن الدعم الإيراني واصل ارتفاعه بعد سيطرة «أنصار الله» على صنعاء في أيلول 2014، إلا أن التدريب والمشاركة في القتال، اللذين أكدتهما مراراً وسائل الاعلام الخليجية، لا يتجاوزان، بحسب جونو، «العشرات من ضباط الحرس الثوري الإيراني بمساعدة حزب الله الذين أرسوا برنامج تدريب وتأهيل للحوثيين». وتنطلق الصحيفة الأميركية من هذا العدد الضئيل للقول إن المشاركة الإيرانية غير كافية للقيام بفارق أكثر من هامشي في القتال في البلد المتخم بالاسلحة، «لذلك ليس هناك دليل يعزز الادعاء بأن إيران أثرت بشكل كبير في قرار الحوثيين».
ونظرة سريعة على تاريخ الحركة اليمنية تدلّنا على «الحذر»، إن جاز التعبير، في التعاطي مع الجمهورية الإسلامية، انطلاقاً بالدرجة الأولى من الاختلاف العقائدي بين الطرفين. وهو ما أشارت إليه الصحيفة الأميركية حين قالت إن ما يجمع إيران بالحوثيين ليس «إيماناً شيعياً»، مثلما يردّد الإعلام الغربي دائماً. وبعد إشارة إلى الفرق العقائدي بين الشيعية الإثني عشرية والزيدية، أكد الكاتب الكندي أن ما يجمعهما حقيقةً هو «عدم رضى مشترك عن الوضع الراهن».
وفي السياق نفسه، كان الرئيس الأميركي باراك أوباما قد أكّد قبل سنة، أنّ تحرّك الحوثيين باتجاه صنعاء «لم يكن بموجب أوامر صادرة عن (قائد فيلق القدس الإيراني قاسم) سليماني». التصريح المهم الذي جاء أثناء جلسة مغلقة مع صحافيين، وضعه البعض في حينها في سياق «مهادنة» الإيرانيين بعد التوصل إلى الاتفاق النووي معهم. وقال أوباما آنذاك أيضاً إنّ إيران «طلبت منهم (الحوثيين) في لحظة من اللحظات ضبط النفس، ولكن بعدما دخل الحوثي إلى صنعاء، ولم يكن هناك حكومة، لم يجد أي مقاومة تذكر».
«الالتباس» في طبيعة العلاقة بين الطرفين ليس جديدا. ففي حرب 2009 (الحرب السادسة)، وفيما كانت الرياض تتهم طهران بدعم الحوثيين بالسلاح، صرّح أكثر من مسؤول أميركي مقللاً من واقعية تلك الاتهامات. واكتفى قائد القوات الأميركية في العراق آنذاك، ديفيد بتريوس، بالقول إن هناك «بعض المؤشرات» التي يمكن أن تدل على تورط إيران في الصراع، فيما قال مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان «ليس لدينا أدلة على أن التدخل الإيراني بقضية الحوثيين عميق بقدر ما هو مع حزب الله». وكان تقرير في معهد واشنطن الأميركي عام 2010، قد ربط هذه التصريحات بجهود الولايات المتحدة الرامية إلى عدم تقويض محادثاتها مع طهران حول الملف النووي.
قبل أيام، خرج المتحدث باسم التحالف السعودي، أحمد عسيري، ليؤكد أن الأزمة في اليمن داخلية، لا يمكن إقحام الحدود السعودية فيها، وأن من سيستخدم ورقة الحدود ظنّاً منه أنه يمارس ضغطاً على المسار السياسي المتمثل بالمفاوضات هو «واهم». كلام عسيري جاء تعليقاً على التصعيد العسكري الذي شهدته المناطق الحدودية بالتزامن مع مواصلة المحادثات في الكويت قبل تعليقها. وقد رأى البعض في هذا التصريح اعترافاً متقدماً للسعودية بأن الأزمة منذ البداية كانت بين القوى السياسية اليمنية التي كانت على وشك التوصل إلى حل برعاية مبعوث الامم المتحدة السابق جمال بن عمر، بعيداً عن الشعارات الكبيرة التي ترمي إلى إثارة الغرائز في ظلّ الصراع الاقليمي، فيما رأى فيه آخرون رسم مسارات جديدة للحوار اليمني المتعثر لعزل الملفات عن بعضها بعضا. ولكن في جميع الأحوال، من الصعب ألا يستدعي كلام عسيري النظر إلى الخطاب الذي غذّى الحرب المستمرة على قاعدة الصراع الاقليمي، مثيراً من جديد سؤالاً عن الأهداف الحقيقية للحرب التي لا يبدو لها أفق نهاية حتى اللحظة.