لا أحد يستطيع التوقف بسهولة، كما أن العودة الى الخلف ليست فعلاً سهلاً، أمّا الاستدارة الكاملة فتقاربُ المستحيل. هذه المُسلّمات ينبغي أن تكون حاضرةً في مستهلّ أي مقاربة لتطورات الملف السوري. أمّا السباق المحموم نحو «تحسين شروط التفاوض» الذي صار لازمةً تتكرّر بالتوازي مع كل حديث عن مفاوضات جديدة أو «صفقة وشيكة»، فلم يُنتج على امتداد السّنوات الماضية سوى مزيد من التعقيد في الصراع الدامي. ففي جميع المرّات السابقة انهارت المسارات التفاوضيّة، و«كسبت» الحرب جبهات حاميةً جديدة.
ومع تزايد الكلام على مؤشرات «استدارة تركيّة»، جاء الغزو العسكري المُباشر ليُشكّل نقلة خطيرةً سيلزمُ مزيدٌ من الوقت كي تُترجم تبعاتها على المشهد برمّته. ويبدو جليّاً أنّ المشهد في أقصى الشمال السوري قد دخل مرحلة «اللعب على حافة الهاوية» من قبل جميع الأطراف ذات الصلة المباشرة: دمشق، أنقرة، و«قوات سوريا الديموقراطيّة». أمّا المواقف الروسيّة والأميركيّة فتُظهر حرصاً مستمرّاً على إضفاء مزيد من الغموض على المجريات التي سبقت الغزو التركي، ومهّدت له. لكنّ الثابت أنّ واحداً من الطرفين (على الأقل) كان في صورة الخطوة التركيّة قبل حصولها؛ فإقدام أنقرة على مغامرة من هذا القبيل بشكل منفرد هو أمرٌ يتجاوز قدراتها حتماً. ويبرز في هذا السياق ما أوردته صحيفة «وول ستريت جورنال»، في عددها الصادر أمس، من أنّ «الهجوم التركي أخذ الولايات المتحدة على حين غرة... إذ بدأت تركيا عمليتها دون إنذار مسبق لواشنطن». ولم يعد سرّاً أنّ القنوات الأمنيّة قد أحدثت اختراقات كبيرة في الجُدر القائمة بين أنقرة ودمشق. لكنّ تأكيد «حدوث اتفاقات هو أمرٌ سابقٌ لأوانه»، وفقاً لما يقوله مصدر سوري رفيع المستوى لـ«الأخبار». المصدر أشار إلى «انعدام الثقة» بوصفه واحداً «من أبرز العقبات الأساسيّة في أي مفاوضات حول الملف السوري، مع الأتراك أو سواهم». لكن ماذا إذا أثبتت «الثقة الغائبة» كفاءتها وأعادت المؤشّرات إلى النقطة الصفر؟ وكيف ستتعامل دمشق في هذه الحالة مع احتلال تركي لأراضٍ سوريّة جديدة؟ يترك المصدر هذه التساؤلات من دون أي تعليق، شأنها في ذلك شأن تساؤلاتنا عن الموقف السوري الرسمي من الأكراد، في ضوء الرسائل التي وردت على لسان عضو في «مجلس سوريا الديمقراطيّة» قبل يومين (الأخبار، العدد 2971). وجرياً على عادة معظم المسؤولين السوريين، يختتم المصدر حديثه بعبارات توحي بالثقة بـ«امتلاك الخيوط». ومن دون الإفراط في التفاؤل، يمكن التأكيد، وفقاً للمعلومات المتوافرة، أنّ انعدام الثقة لم يوقف مساعي معظم الأطراف لـ«تدوير الزوايا»، وهي مساعٍ حملت مسؤولَين سوريين اثنين (أحدهما أمني والآخر عسكري) خارج الحدود، في زيارات خاطفة بتواتر متزايد خلال الشهر الجاري. كذلك وضعت تلك المساعي ملفّ حلب على طاولات مشاورات «حامية» بين خبراء عسكريين أوفدتهم موسكو وواشنطن إلى جنيف. وتحافظ «عاصمة الشمال» على مركزيّتها في كل الخطوط التفاوضيّة المفتوحة، مع اقتناع الأطراف بأنّ المدينة هي الأصلح لأخذ الصراع إلى منعطفٍ جديد. وينبغي التذكير بأنّ أي «صفقة» قد يتوافق الأطراف عليها سيكون من شأنها نقل الحرب إلى مرحلة جديدة فحسب، لا إنهاؤها. وحتى الآن، فإنّ «حدود التوافق الممكن» في الميدان الحلبي لا تتجاوز إمكانيّة العمل على «عزل جبهة فتح الشام / النصرة» ونظرائها المتطرّفين (وعلى رأسهم «الحزب الإسلامي التركستاني») عن فصائل «المعارضة السورية المفحوصة vso». (الأخبار، العدد 2876). وسيكون من شأن إبرام صفقة مماثلة إبعاد «النصرة» وأخواتها غرباً نحو إدلب، التي بات مسلّماً أنّها امتلكت كل المقومات الكفيلة بتحويلها ساحةً لـ«تصفية الصراع».
يُعتبر انعدام ثقة دمشق بأنقرة عقبة أساسيّة في أيّ مفاوضات

ووفقاً لمعلومات «الأخبار»، فإنّ التفصيل الخلافي الأعمق في شأن حلب حتى الآن يتمحور حول إصرار دمشق وحلفائها على إحكام قبضتهم على شطري المدينة، بينما يسعى الأميركيون إلى إمرار اتفاق «هدنة» يُتيح لفصائل «vso» (دون غيرها) البقاء مرحليّاً في الأحياء الشرقية مع الحفاظ على معبرٍ يتيح «تزويد تلك الأحياء بإمدادات غذائيّة للمدنيين» وفقَ آليّة «رقابة مشتركة» تضمن عدم استغلال المعبر لنقل معدّات عسكريّة وذخائر أو مقاتلين. ويحمل المقترح الأميركي بنداً يتيح لموسكو وواشنطن مراقبة «الهدنة» مع تقديم الطرفين ضماناتٍ بعدم مهاجمة حلفاء كلٍّ منهما حلفاء الآخر. وفيما نفت واشنطن أمس ما تمّ تداوله عن إبرام اتفاق مع موسكو، حرصت في الوقت نفسه على تأكيد السعي المشترك «لاستئناف الهدنة». وقال السفير الأميركي لدى موسكو، جون تيفت، إن البلدين «يعملان على وضع آلية لاستئناف الهدنة في سوريا»، من دون أن يعني ذلك «دعم نظام الرئيس بشار الأسد». وقال تيفت في تصريحات صحافية «كما قال وزير الخارجية (لافروف) كيري، نعمل في الوقت الراهن بنشاط على تنفيذ تلك الآلية القادرة على التخلص من الإرهاب الذي نواجهه». وانضمّت فرنسا إلى قطار التصريحات المتعلّقة بالهدنة، حيث أكّد الرئيس فرانسوا هولاند أمس «ان الأولوية الآن في سوريا هي لوقف إطلاق النار». وقال هولاند، خلال لقائه سفراء باريس في الخارج، إنّ «على الأطراف الدوليين تحمّل مسؤولياتهم تجاه سوريا التي تعيش منذ خمس سنوات مأساة رهيبة»، مشيراً على وجه الخصوص إلى حلب حيث «تجري كارثة إنسانية واسعة النطاق». وحتى الآن، لا يوحي سير المعارك على جبهات حلب الجنوبيّة بأي تبدّل في حجم الدعم الممنوح للمجموعات المسلّحة هناك. وعلى الرغم من المعارك العنيفة المستمرّة على غير محور، ما زال «الحزب الإسلامي التركستاني» و«جبهة فتح الشام» وحلفاؤهما قادرين على القتال بشراسة، و«ما زالت خطوط الإمداد تتيح تزويدهم بمستلزمات المعركة»، وفقاً لتأكيدات مصادر ميدانيّة لـ«الأخبار».




«هدنة» مؤقتة بين أنقرة و«مجلس جرابلس»


كُشف أمس عن اتفاق «هدنة» مؤقتة بين الجيش التركي و«المجلس العسكري لجرابلس» كان قد دخل حيّز التنفيذ عند منتصف الليل. وتوصّل الطرفان إلى الاتفاق برعاية «التحالف الدولي»، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدّة التي ترتبط بتحالفات معهما. لكنّ الهدنة المذكورة لم تمنع أنقرة من إرسال مزيد من الدبابات والعربات المصفحة إلى الحدود المتاخمة لمدينة جرابلس، فيما أكّد «المجلس العسكري لجرابلس وريفها»، في بيان تلقّت «الأخبار» نسخة منه، أنّ «الاتفاق لا يعني قبولنا بالاحتلال التركي لجرابلس بأي شكل من الأشكال». بدورها، أكّدت «قوّات سوريا الديمقراطيّة» أنّها «كانت على علم بالاتفاق قبل الإعلان عنه». وقال عضو «مجلس سوريا الديمقراطيّة» ريزان حدو لـ«الأخبار» إنّ «تطبيق الاتفاق يخضع لمراقبة التحالف، وفي حال صموده قد يُبنى على الشيء مُقتضاه ويُفتح الباب أمام ملفات أخرى مثل تبادل الأسرى». حدو تحدّث أيضاً بلسان «وحدات حماية الشعب» الكردية، مؤكّداً «عدم وجدود هواجس لدى الوحدات من الاتفاق الذي أبرمه مجلس جرابلس العسكري». وأوضح أنّ «ما يجمع الوحدات بالمجلس هو تحالف قِيم، لا تحالف مصالح. كلانا نرفض التقسيم، ونعمل على محاربة الإرهاب، وننظر إلى الجيش التركي بوصفه قوّة احتلال».