إختار كمال البقاعي بأناقته المعهودة توقيت رحيله. فعشية الذكرى الـ 34 لإنطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، يغادرنا كمال بعناية فائقة، كما كان يختار «صيده» لجنود الاحتلال الاسرائيلي وعملائه على طول خط المواجهة من البقاع الغربي وسفوح جبل الشيخ الى أطراف الجليل الفلسطيني ومرتفعات وهضاب الجولان العربي السوري، مروراً بتلال جبل الباروك والريحان وسهول مرجعيون والخيام وأبل السقي وما بينها من بلاد الفقراء المحروسة بنهري الليطاني والحاصباني.إختار «المعلم» كما كان يناديه الرفاق، توقيت «عمليته» وهو عز تحضيره لصناعة أوسمة جديدة لرفاقه الشهداء بذكرى إنطلاقة المقاومة. رفاق سار معهم في المسالك الوعرة وعايش معهم تفاصيل البرد والجوع والعطش، من «سند ضهره» جورج نصرالله (هادي) إلى كمال الحجيري ومحمد الدرخباني وجمال ساطي ولولا عبود وعمر المحمد والياس حرب وميشال صليبا وحسام حجازي ووفاء نور الدين وقاسم الباشا وإيلي حداد ووائل نعيم وإنعام حمزة ويحيى الخالد وعباس فرحات، وغيرهم المئات من أجيال جبهة المقاومة الاحياء المنسيين اليوم في قراهم ومدنهم وفي بلاد «العيش» الغريبة.
أصل الحكاية في سر سيبقى مزروعاً أمانة بين حجرين صغيرين في أعالي جبل الشيخ

لم يكن كمال البقاعي مقاوماً عابراً. ما يعرفه «الرفاق» عن مقاومته هو القليل من نبيذها الطيب. فحكايته مع «جمول» في مكان أمين. لسطورها وتفاصيلها حراسها الموثوقون الذين إختارهم بهدوء كما كان يختار «رفاق» كل عملية خطط لها ضد الاحتلال الاسرائيلي في البقاع الغربي والجنوب. فحكاية «جمول» عند كمال لم تنتهِ بعد حتى يروي أسرارها، فقد كان يسمح للبعض بسرد أجزاء من المعلومات التي لا تتسبب بأذية رفيق في لبنان أو في بلاد الله الواسعة. فكمال كان ينتظر يوماً العبور من أبل السقي إلى فلسطين.
لم يبح كمال بكل تفاصيل عمليات «جمول» عند ضفاف بحيرة القرعون أو في أعالي جبل الباروك وسهل عمّيق وكامد اللوز في البقاع الغربي. لم يقل تفصيلاً عن عمليات جبل أبو راشد ووادي الدلافة وسهل إبل السقي وهضاب الخيام ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا... أو ما جرى من مواجهات في جبل الشيخ من سنة 1985 وحتى 1990 وكيف يقتل العدو جنوده كي لا يقعوا أسرى بيد الرفاق.
لم يحدثنا كمال عن تدمير إذاعة العميل انطوان لحد وكيف خطط للهجوم ورسم المسار وحدد نقاط ضعف «صوت الخيانة». ولم يحك لنا عن ثكنة مرجعيون وأسرار إقتحامها وزرع العبوات، ولا عن إقتحام معتقل الخيام بهدف تحرير الاسرى وفي طليعتهم سهى بشارة. لم يحدثنا كمال عن محاولات أسر جنود للعدو في مزارع شبعا وجبل الشيخ ومرجعيون في سنوات 1986 و1988 و1989 وكيف وضع مع الشهيد جورج نصرالله خطة «خطف» محتل من مزرعة رمثا ونقله إلى الاراضي المحررة.
رحل كمال البقاعي ولم يخبرنا عن محاولات إغتيال رأس العمالة أنطوان لحد قبل أن تطلق رصاصاتها سهى بشارة. وسر الاسرار يبقى عن عملية إغتيال رأس الموساد الاسرائيلي في البقاع الغربي «ابو النور» سنة 1984. وحدهم الرفاق في مجدل بلهيص ومشغرة ولبايا وجب جنين، وأعمال عباس وقاسم، سيروونها لاحفاد «جمول».
لم يقص لنا كمال البقاعي حكايات رفاقه الاحياء وليد وأبو أحمد وعدنان وسمير وأحمد وسلامة ومسعود وجهاد وخالد وعبدو وكفاح وليلى وأبو نضال وبشار وحنا ووو... قصة أبو علي وأبو خالد ومشاوير جورج حاوي إلى غرف المقاومين السرية. فسر إنتصار مقاومة كمال هو في إحتفاظه بأسرار الرفاق، وهو القائل :»المقاومة باقية إحتفظوا بالسر».
لم يرو لنا كمال قصة الفرار الاولى لرفاق من ثكنة الخيام ربيع العام 1984 قبل أن تصبح معتقلاً. فحكاية فواز وأحمد ونجاح فرارهما من داخل الثكنة خلال إعتقالهما أثناء تنفيذهما لمهمة قرب نبع الدردارة (الخيام)، سرها سيبقى في كتاب كمال الذي أنب يوماً «مسعود» كيف خاض مواجهة مجنونة في وضح النهار مع دورية إسرائيلية على طريق المطلة – الخيام في 1986، وعاتب الشهيد إيلي حداد كيف دخل موقعا للاحتلال ظهراً ونفذ هجوماً بدل الالتزام بالمهمة الاستطلاعية ووو...
«كتاب» كمال البقاعي لا نهاية له. حكايته مقاومة، ومقاومته أصل الحكاية، وأصل الحكاية في سر سيبقى مزروعاً أمانة بين حجرين صغيرين في أعالي جبل الشيخ... حيث فلسطين تكون قريبة.