"الحضارة تنطلق من الجذور. تتسرب الى كل طلع: الى الورقة والزهرة والبرعم، ومن خلية الى أخرى، كأنها دم أخضر. يطلقها رذاذ المطر كعطر من زهور منداة.لكن الحضارة التي تنصبّ على البشر، من فوقهم من عل، لا تلبث أن تنعقد كما ينعقد السكر الرطب. وهكذا يصبحون مثل عرائس السكر، وعندما يبللهم بعض رذاذ من المطر الواهب للحياة، فإنهم يتلاشون، يذوبون في خليط لزج". (عمارة الفقراء/ حسن فتحي)


أول ما قد أقوله عن البناء بالطين، هو أنه تراث عريق... للمستقبل. ثم أتخيل ابتسامات الإشفاق والسخرية ترتسم على وجوه بعض القرّاء. فمن ذا المجنون الذي يدعو في مطلع القرن 21 للعودة الى تقنيات بدائية و"متخلفة"، في الوقت الذي نركض فيه لاهثين لمحاولة اللحاق بقطار "الحضارة" المبتعد عنا بسرعة مخيفة؟ أطمئن هؤلاء: فاللحاق بقطار الحضارة ليس بالصعوبة التي تظنونها، بل هو أصعب من ذلك بكثير!
أغلب الظن أنك، يا عزيزي القارئ، تنتمي الى إحدى فئتين: إما فئة المحظوظين الذين سوف يقدمون على بناء بيتهم الخاص قريباً، وإما فئة الذين يراودهم هذا الحلم، آملين تحقيقه في الظرف المناسب. وفي الحالتين، سوف تحتار بين خيارات كثيرة لبناء ذلك البيت العتيد. فإليك رؤيتين عامتين نطلب منك أن تختار إحداهما:
عولمة الهندسة المعمارية أحد أسوأ الأخطاء التي ارتكبتها البشرية بحق نفسها

الخيار الأول: بيت مناخه معتدل على مدار السنة، دافئ في الشتاء وبارد في الصيف. هواؤه ذو نسبة رطوبة ثابتة ومثالية صحياً، بغض النظر عن نسبتها في الخارج. بيت يمكنك، مع القليل من التدريب، أن تعمره بنفسك بمساعدة الأقارب والأصدقاء. مادة بنائه الرئيسية مجانية أو شبه مجانية، قابلة لإعادة الاستعمال ولو بعد مئات السنين، وذات إمكانات غير محدودة على صعيد التشكيل. بيت ينسجم بتواضع مع محيطه، ويقف صامداً في مواجهة عوامل الطبيعة من أمطار وثلوج وحرارة وبرودة، رغم منظره "الناعم" و"السريع العطب".
الخيار الثاني: بيت مناخه "متطرف" صيفاً وشتاءً، "في الصيف حريق وفي الشتاء غريق". كلفة تدفئته وتكييفه مرتفعة. سوف يكلفك بناؤه كثيراً، لكن الجيران سيحسدونك على أشكاله الطاووسية وقرميده الأحمر وقناطره "التي لم يعمّر مثلها أحد". بيت، بالرغم من منظره "الصلد"، سوف لن يصمد طويلاً في وجه عوامل الطبيعة، وسوف تبدأ مشاكل النش والتشققات وغيرها بالنيل منه في الشتاء المقبل، اللهم إلا إذا احتطت لذلك وتكلفت المبلغ المرقوم على العزل ومنع النش.
والآن، أيهما سوف تختار؟ أراهن أنك لن تتردد طويلاً قبل أن تختار... الثاني! وإن يكن يبدو جلياً الخيار الأسوأ. ليس بسبب مازوشية مستترة لديك، بل لأن البيت الأول هو من الطين، والثاني من الاسمنت.

أحكام مسبقة

لا ألومك على خيارك، فأغلب الظن أنك لم تسمع في حياتك ببيوت الطين. وإذا كنت قد سمعت، فالأرجح أن ذكرها أتى مقروناً بمجموعة من الأحكام السلبية، مثل: "بيوت الطين غير ملائمة للمناخات الممطرة فهي لا تصمد أمام الماء"، "بيوت الطين تحتاج إلى صيانة دائمة وخاصة في الشتاء"، "بيوت الطين تعشش فيها الحشرات"، "لا يمكن إنشاء أكثر من طابق واحد من الطين"، "إنها بيوت الفقراء!".
هذه الأحكام وغيرها نجدها لدى الكثير من المثقفين عامة، والمهندسين بشكل خاص. ولا عجب، فهم لم يسمعوا أيضاً بالطين حتى خلال دراستهم الجامعية.
هناك عدة حقائق لا بد من الاعتراف بها قبل متابعة المسير في هذه الطريق "الموحلة". الحقيقة الأولى هي أن استعمال الطين في البناء، والذي كان منتشراً بشكل واسع منذ ألوف السنين في بلادنا، قد انقرض أو كاد ينقرض منذ عقود. والحقيقة الثانية هي أن الأحكام السلبية التي ذكرناها قد تكون صحيحة بالنسبة الى بعض أساليب البناء التي كان أجدادنا يستعملونها. ولكن هناك حقيقة ثالثة، مجهولة على نطاق واسع، وهي أن تقنيات العمار بالطين تطورت بشكل هائل في أنحاء عديدة من العالم في الوقت الذي كانت تحتضر فيه عندنا. وقد توصلت مراكز الأبحاث الكثيرة التي تهتم بالموضوع الى مروحة كبيرة من الحلول لمشاكل الطين التقليدية.

عمّ نتحدث؟

ما نطلق عليه اسم الطين هنا هو تراب، يشبه التراب الزراعي كثيراً، غير أنه لا يحتوي مثله على مواد عضوية وكائنات دقيقة توجد عادة في الطبقات السطحية للتربة، أي حتى عمق 50 سنتيمتراً تقريباً. إذاً، التراب الصالح للبناء هو، مبدئياً، أيّ تراب خال من المواد العضوية، ويمكن استخراجه من أي أرض ترابية على العمق المذكور. ويتركب التراب عادة من مزيج من الرمل والطمي والصلصال، بالإضافة الى الماء. وتختلف خواصه الفيزيائية تبعاً لعوامل عدّة، أهمها: نسبة كل مكون من المكونات في المزيج، درجة خشونته أو نعومته، الأملاح والمعادن الموجودة فيه ودرجة رطوبته...
هذا الاختلاف في الخصائص ينجم عنه اختلاف في طريقة الاستعمال. لذلك كان من الضروري معرفة تركيبة المزيج معرفة دقيقة قبل استعماله للبناء. وانطلاقاً من تلك المعرفة، يمكننا أن نقرر تقنية البناء ووجهة الاستعمال المناسبتين... ولمعرفة تركيبة الطين، يجب إجراء عدد من الاختبارات التي لا تستدعي مختبرات وتجهيزات معقدة، بل بعض الأدوات البسيطة (مرطبان، لوح خشبي وشبكة معدنية...) والقليل من التدريب وحداً أدنى من الثقافة العلمية.
وللطين، كما لأي مادة بناء أخرى، حسنات وسيئات. وبحسب الخبراء، سيئاته ثلاث: أولاً، حساسيته للماء، لذلك يجب حمايته من المطر والثلج حماية دائمة، وذلك ممكن ببعض التدابير الإنشائية البسيطة. ثانياً، تقلص حجمه أثناء عملية الجفاف، ما يؤدي الى تشققات، وهذا يمكن تجنبه بإنقاص نسبة الصلصال ودرجة الرطوبة، أو بتدابير أخرى. ثالثاً، لا يمكن إخضاع الطين لمواصفات معينة (norms) بسبب تنوّعه الهائل، لذلك يجب أن نعرف تركيبة الطين الذي سوف نستعمله معرفة دقيقة.
في المقابل، للطين حسنات كثيرة، أهمها أنه:
يعدل رطوبة الهواء: إذ يملك خاصية امتصاص رطوبة الهواء الزائدة بسرعة وإعادتها إليه عند الحاجة. وقد أثبتت تجارب أجراها مركز لأبحاث البناء في ألمانيا على مدى خمس سنوات أن نسبة رطوبة الهواء في بيت مبني بالطين تبقى ثابتة (نحو 50%)، ما يعني مناخاً صحياً على مدار السنة.
يخزّن الحرارة: في ليالي الشتاء، مثلاً، يبث الطين الحرارة التي خزّنها أثناء النهار.
الأحكام السلبية صحيحة بالنسبة الى بعض أساليب البناء التي استخدمها أجدادنا

يساهم في توفير الطاقة: وذلك بسبب عدم استهلاكه للطاقة في عملية تصنيعه (1% من الطاقة التي تلزم لإنتاج الاسمنت المسلح) وبسبب قدرته الجيدة على العزل. وبالتالي، فإن استعماله يساهم أيضاً في الحد من تلوث البيئة.
يمكن إعادة استعماله في أي وقت: يكفي أن نطحن الطين الجاف ونخلطه مع الماء لكي نستعمله مجدداً. ثم إنه، بعكس مواد البناء الأخرى، لا يتحول الى نفايات عند هدم المبنى. فهو فعلاً "من التراب وإلى التراب يعود".
يوفر في مواد البناء وتكاليف النقل: فهو ينتج عادة من "الحفرية" التي نحفرها للطبقات السفلية والأساسات. وبالتالي، فهو متوفر مجاناً في موقع البناء، أو يمكن شراؤه بثمن زهيد قد لا يتعدى كلفة نقله.
مناسب للبناء الذاتي (العونة): فتقنيات العمار بالطين سهلة التعلّم والتطبيق ولا تحتاج الى معدات وتجهيزات كبيرة (مع إشراف خبير).
يمتص المواد الضارة والروائح الكريهة من الهواء: فبامتصاصه بخار الماء (الرطوبة) يمتص أيضاً كل الجزيئات التي يحملها البخار ويحتفظ بها.
قابليته الكبيرة للتشكيل: عندما يكون الطين رطباً، أي أثناء عملية البناء، يكون أشبه بالمعجونة.

عودة الشيخ الى صباه

استعمل الطين للبناء منذ آلاف السنين، وفي كل أنحاء المعمورة. وقد طورت المجتمعات المختلفة تقنياتها الخاصة وأساليبها المعمارية الملائمة لبيئاتها في استخدام تلك المادة الغنية بالاحتمالات. وحتى اليوم، فإن مدناً بكاملها وصروحاً كبيرة شيدت منذ مئات السنين لا تزال تشهد على متانة هذه العمارة وجمالها وتنوعها.
ومع اختراع الاسمنت ومواد البناء الحديثة الأخرى، تراجعت العمارة الترابية كثيراً. لكن الاهتمام بها ما لبث أن عرف تزايداً ملحوظاً منذ منتصف القرن العشرين تقريباً. فبالنظر الى أزمة السكن في البلدان النامية، وتعذر تلبية الحاجة المتعاظمة الى مساكن بمواد بناء صناعية بسبب ضعف الإمكانات الاقتصادية، بدأ التفكير في حل يعتمد على مواد البناء المحلية وعلى تنشيط "المساعدة الذاتية" في البناء. ومن التجارب المعروفة في هذا المجال التجربة الرائدة للمهندس المصري الراحل حسن فتحي (انظر الكادر 2). لكن الدفعة القوية التي تلقاها العمار بالطين جاءت، كالعادة، من أوروبا وأميركا. وكان أحد أهم أسبابها الطلب المتزايد على مواد بناء صديقة للبيئة، توفر في استهلاك الطاقة وفي التكاليف، وتؤمن مناخاً سكنياً صحياً.
وقد تأسس العديد من مراكز الأبحاث التي تعنى حصرياً بالعمارة الطينية منذ سبعينيات القرن الماضي. وتركزت جهودها على دراسة خصائص مادة الطين لمعرفة إمكاناتها بشكل دقيق، وعلى دراسة التقنيات التقليدية بهدف إعادة إحيائها وتطويرها، إضافة الى استنباط تقنيات وأساليب بناء جديدة. ومن هذه المراكز، على سبيل المثال، CRATerre في غرينوبل بفرنسا وFEB في كاسل بألمانيا وCSIRO في سيدني بأوستراليا.
وتوصلت الأبحاث والتجارب الى معرفة مادة البناء هذه معرفة علمية دقيقة. ونجحت تلك الأبحاث في نفض الغبار عن التقنيات التقليدية التي أصابها النسيان أو كاد، فأعيد الاعتبار الى الكثير منها، وطور البعض الآخر ليتلاءم مع متطلبات البناء اليوم.
لن يتسع المجال هنا لتعداد جميع التطورات التي لحقت بتقنيات العمار بالطين. وسوف نكتفي بذكر قليل من الأمثلة في مجالات ثلاثة هي: تحسين مقاومة الماء، وتجنب الشقوق وتحسين العزل الحراري.
مبدئياً، لا تحتاج الجدران الترابية الى مواد إضافية لرفع مقاومتها للماء إذا ما قمنا بالإجراءات الإنشائية المناسبة (قواعد حجرية أو اسمنتية، سطوح بارزة، توريق، تلبيس...)، وذلك بخلاف الطين المستعمل للسطوح أو للتوريق والذي يجب أن يكون كتيماً أي لا يسمح بنفاذ الماء خلاله. وهذا ممكن مثلاً عبر إضافة مواد معينة بنسب ضئيلة. فإضافة نسبة 2 إلى 8 في المئة من الاسمنت الى الطين مثلاً تكفي لتغيير تركيبته الداخلية بحيث تتماسك جزيئاته بشكل يمنع نفاذ الماء. والنسبة نفسها من الكلس لها المفعول ذاته، وخاصة مع التراب "الدسم" ذي النسبة العالية من الصلصال.
أما الشقوق التي تحدث أثناء عملية الجفاف، فيمكن تجنبها بكثير من الوسائل، منها زيادة نسبة الرمل في التراب وإنقاص نسبة الرطوبة، أو إضافة ألياف تلعب دور "التسليح" في المزيج وتكون نباتية (قش، تبن وإبر الصنوبر...) أو صناعية (بلاستيكية). ويمكن الحصول على نتائج جيدة أيضاً بإضافة مواد "مسيّلة" مثل العفص أو القطرونة، التي تستعمل أيضاً في صناعة الخزف من أجل تسييل عجينة الخزف من دون إضافة كثير من الماء، ما يحدّ من التشقق.
وتحسين قوة العزل الحراري للطين ممكن بإضافة مواد "مجوّفة" إليه، كالقش، أو كريات الصلصال المنفوخ، التي تستعمل حالياً للهدف نفسه بمزجها مع الاسمنت. وهناك تقنية حديثة أخرى لتحسين العزل الحراري هي "رغوة الطين"، التي طورت في الأساس من أجل الاسمنت، وتتمثل بتصنيع رغوة ناشفة من الطين تعمل الفقاقيع الهوائية فيها على إنقاص الثقل النوعي، وبالتالي زيادة قدرة العزل.

"بيت" القصيد

نتحدث كثيراً عن العولمة في هذه الأيام، وغالباً ما يتبادر الى ذهننا أنها بدأت في الماضي القريب. ونتناسى أن العديد من ظواهر العولمة بدأت، بهدوء ودون الكثير من الضجيج، منذ عشرات السنين.
"الأسلوب العالمي" (international style) في البناء هو إحدى هذه الظواهر. من المعروف أن هذا الأسلوب، الذي انطلق في ثلاثينيات القرن الماضي من أوروبا وأميركا الشمالية، انتشر بسرعة كبيرة في سائر بقاع الأرض، جارفاً في طريقه الخصوصيات البيئية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية لبقية المجتمعات. وكان انتشار هذا الأسلوب، مع ما رافقه من نظريات وتقنيات ومواد بناء، يتم على حساب التراث المعماري المحلي، مع ما يعنيه ذلك من تلاشي تقاليد وتقنيات ومفاهيم جمالية تراكمت عبر مئات، إن لم يكن آلاف، السنين.
إن "عولمة" الهندسة المعمارية قد تكون أحد أكثر الأخطاء التي ارتكبتها البشرية بحق نفسها عبثية وجنوناً. أليس من الجنون أن تتشابه الأبنية الى حد التماثل في دبي وشنغهاي وجوهانسبورغ مثلاً؟ أليس من الجنون أن يهجر ابن البقاع اللبناني بيتاً يؤمن له الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف ليسكن في "علبة خرسانية" تكاد لا تحميه من الحر والبرد؟ أليس من العبث أن نقوم باستيراد "التكنولوجيا" الغربية دون فهمها فهماً صحيحاً، وأن نطبقها حتى من دون محاولة تكييفها حسب حاجاتنا؟
لدينا تراث معماري عريق. وهو، بالطبع، ليس قابلاً للتطبيق بمجمله في كل زمان وأي مكان، لكنه يحتوي على مكونات كثيرة صالحة للانطلاق منها والبناء عليها. والعمارة الطينية هي أحد هذه المكونات. وهي، بمميزاتها الكثيرة وإمكاناتها المتعددة وقابليتها للتطور، يمكن أن تشكل أحد البدائل المعقولة للبناء اليوم، وخاصة في الريف.

*من «عمارة الفقراء» لفيلسوف الهندسة حسن فتحي.
*ياسر صاروط معماري متخصص بالعمارة البيئية.




هل تعلم؟
- أن نحو ثلث سكان الأرض يعيشون اليوم في بيوت طينية؟ وأن 98 صرحاً (من أصل 536) من الآثار المدرجة على لائحة الأونيسكو للتراث العالمي مبنية كلياً أو جزئياً من التراب؟ كما أن سور الصين العظيم (2000 ق.م.) بني أساساً من التراب، ولم يضف تلبيس الحجر إليه إلا في عصور متأخرة؟ هل تعلم أيضاً أن بيوت صنعاء (وغيرها من مدن اليمن) ذات الطبقات العديدة مبنية كلياً من الطين؟ وأن مطار فورت وورث في دالاس بالولايات المتحدة (1974/ 70 كلم2) مرصوف بالطين؟ وأخيراً أن في ألمانيا وحدها أكثر من 100 شركة مقاولات وبناء حديثة متخصصة بالعمارة الطينية؟ وأن نحو 28000 كيلومتر من الطرقات الحديثة في الجزائر مرصوفة بالطين (مع القار)؟