انطلقت السيارة من الأراضي البلجيكية متجهة نحو الأراضي الفرنسية، ليمر نصف ساعة قبل أن تصل إلى الحدود غير الموجودة فعلياً. لن تعلم أنك أصبحت في فرنسا إلا عندما تنقطع شبكة الاتصالات البلجيكية عن الإرسال. نصف ساعة آخر داخل الأراضي الفرنسية وتصبح على أطراف مخيم «أدغال كاليه»، أو ما يُعرف باسم «جنغل كاليه». يفصل بين حدود المخيم والأتوتستراد من جهة مدينة «كاليه» سياج حديدي تعلوه أسلاك شائكة بارتفاع 4 أمتار. ثلاث سيارات شرطة تقف عند مدخل المخيم بشكل دائم، إضافة إلى كلاب بوليسية. أخرج المتطوع البلجيكي موافقة الدخول التي كان قد استخرجها من السلطات الفرنسية للسماح لسيارته بدخول المُخيم. لا تدخل سيارة من دون تصريح، وبوسع الأفراد ركن سياراتهم في الخارج والدخول سيراً على الأقدام.
السوريون أقلية

دخلت السيارة إلى أرض المخيم الرملية حيث الطرقات متعرجة بين الخيم ومفروشة بالحصى. اصطف عند البوابة طابور طويل من اللاجئين يتجاوز عددهم مئتي شخص، بانتظار الحصول على وجبات طعام من بعض المتطوعين.
في هذا المكان نشب شجار بين لاجئين أفغان وسودانيين من أجل وجبة طعام، انتهى بمقتل ثلاثة سودانيين وحرق أكثر من 250 خيمة، بعد استخدام أسطوانات الغاز والأسلحة البيضاء. لا تتدخل الشرطة الفرنسية في مثل هذه الحالات التي أصبحت مألوفة في تلك المساحة الصغيرة المكتظة بآلاف البشر.
توقفت السيارة قرب خيم اللاجئين السوريين، كانوا قد استيقظوا من نومهم للتو. لم يبقَ العديد منهم هنا. 67 شخصاً فقط بينهم عائلة واحدة، ينحدرون من مختلف المحافظات السورية. أقدمهم وسيم، وهو من ريف دمشق كان يعمل في شركة الاتصالات MTN، مضى على وجوده في المخيم نحو عشرة أشهر بانتظار موافقة سفر إلى كندا.
يروي وسيم حكايته لـ«الأخبار»: «لم أكن أفكر في مغادرة سورية، رغم خطورة الأوضاع، وطبيعة عملي في صيانة أبراج الاتصالات، إلا أن إصابة زوجتي بشظايا قذيفة وقعت في بيتنا أجبرتني على المغادرة مع عائلتي إلى بيروت، تركت أسرتي هناك خوفاً على الأطفال من رحلة البحر، وهاجرت».
عبقت رائحة القهوة في المكان الضيق الذي يتخذه السوريون مكاناً لخيمهم المتجاورة. خيمة «وسيم» أكثر الخيم نظافة وترتيباً، وهي الوحيدة التي تحوي عشرات الروايات المكتوبة باللغة الإنكليزية. يستثمر وقته في القراءة، ويقول: «حصلت على هذه الروايات من بعض الأصدقاء الذين تعرفت إليهم هنا، متطوعون وصحفيون وكُتّاب من كل العالم يأتون، يلتقطون الصور ويجرون بعض اللقاءات ويغادرون، إلا أن بعضم يبقى بيننا ينامون هنا، ويتشاركون معنا كل شيء في نوع من التعاطف الإنساني، لكنهم في النهاية لا يستطيعون تغيير الواقع الذي يعيه آلاف البشر هنا».

ظروف مأسوية

رائحة كريهة تهبّ كل حين في أجواء المخيم. اتضح أن الصهاريج بدأت بشفط مياه الصرف الصحي التي تتجمع في حفرة بين كل مجموعة خيم. بعض المنظمات أحضرت مراحيض بلاستيكية، وحين تمتلئ يُفرغونها. لا مياه صالحة للشرب، ولا كهرباء، ولا مرافق تليق بالاستخدام البشري. وكل الأدوات البسيطة الموجودة في ذلك المكان هي عبارة عن تبرعات من جهات مدنية تحاول تخفيف مأساة البشر. لا تقدم الحكومة الفرنسية أي خدمات، ودورها يقتصر على دوريات الشرطة التي ترابط قرب الباب.
يحكي أحمد، وهو شاب خرج من السودان هارباً من جحيم الحرب في جنوب بلاده، ووجد نفسه في المخيم لـ«الأخبار»: «الحياة هنا صعبة بكل معنى الكلمة، هناك من يموت من أجل الحصول على وجبة طعام، أعتقد أن الوضع هنا في كاليه هو الأكثر مأسوية في العالم، عليك أن تنتظر سبع ساعات لتحصل على حمام مجاني بمدة لا تتجاوز خمس دقائق فقط، ويجب أن تعرف كيف تتدبر أمر طعامك، لأن لا أحد يقدم لك وجبة طعام باستثناء بعض المتطوعين الذين يأتون كلما تيسر لهم. الحقيقة نحن هنا في غابة حقيقية في اسمها ومضمونها».
لا سجلات رسمية توثق أسماء اللاجئين، ولا قوانين تنظم العلاقة بينهم في هذا المكان. القوي هو السيد هنا، أما الضعيف فمصيره الموت إن لم يمت تحت عجلات القطارات البريطانية أو في إحدى الشاحنات التي تعبر من فرنسا إلى بريطانيا.
تنتظر سبع ساعات لتحصل على حمام بمدة لا تتجاوز خمس دقائق

يقول فرانكي، وهو متطوع بلجيكي خمسيني متفرغ لخدمة اللاجئين والعمل الإنساني لـ«الأخبار»: «في بلجيكا ممنوع علينا الدخول إلى مخيمات اللاجئين والاطلاع على أحوالهم، لذلك أقصد فرنسا أسبوعياً بعد أن أشتري حاجيات للشباب وبعض الطعام ومياه الشرب. الظروف هنا مأسوية، ونحن نفعل ما بوسعنا، لكن ذلك ليس كافياً. فرنسا تستطيع الكثير، لكنها لا تقدم أي شيء، آلاف الأشخاص يعيشون في هذا المكان البائس، ربما أصبح على العالم أن يدرك جيداً حقيقة فرنسا».
يأخذ فرانكي ملابس الشباب في المخيم إلى بيته كل أسبوع ويغسلها ويكويها ثم يعيدها إليهم في الأسبوع التالي مع قائمة طويلة من الطلبات التي يلبيها بكل رحابة صدر، وكل ذلك على نفقته الشخصية.
ويضيف فرانكي: «تجني الحكومة الفرنسية مبالغ طائلة من (الجنغل)، دون أن تقدم أي شيء للاجئين، ومعظم خدمات النظافة والمرافق يتابعها متطوعون من دول متعددة ليست فرنسا إحداها، ولا يوجد سجل أو أسماء لمن يعيشون في المخيم. هم استوطنوا المكان قادمين من كل بقاع العالم، العالم الذي يعاني ما يعانيه بسبب سياسة الحكومات في العالم المتقدم، ولا أحد يعترف بوجود هؤلاء البائسين على وجه الأرض حتى من يموتون هنا يُدفنون بصمت وكأنهم لم يكونوا».

طريق الجوع

تحوّل لاجئو مُخيم «كاليه» إلى قبلة لمعظم الصحفيين والكُتّاب والمخرجين في العالم. أغلبهم يقصدون المكان لإنجاز تقارير إعلامية وأفلام وثائقية تلائم سياسة الوسيلة التي يتبعون لها. منهم من أقام مع اللاجئين في خيمهم وتقاسم معهم المصير. بعض الصحف ترى أن هؤلاء اللاجئين هم ضحية سياسات الدول العظمى الخاطئة، وأن ظروفهم المأسوية تفضح كذبة حقوق الإنسان التي ترفعها الدول العُظمى، وبعض التقارير تحاول تبرير إهمال الحكومتين البريطانية والفرنسية لقضية «جنغل كاليه»، بأن القاطنين في المخيم غير شرعيين والحكومة الفرنسية غير مُجبرة بهم.
المخرجة الإيرلندية بربارة فلود، أنجزت فيلماً وثائقياً حمل اسم «طريق الجوع»، بعد أن «شاركتُ اللاجئين ظروف حياتهم الصعبة، كان اهتمامي ينصب بالدرجة الأولى على سماع القصص من دون أحكام مسبقة، وأن أسمح للاجئين بأن يتحدثوا ويقولوا كل ما في نفسهم وأن أتعرف إليهم شخصياً لمعرفة ظروفهم في بلدانهم وظروف معاناتهم هنا»، تقول لـ«الأخبار».
وأضافت المخرجة: «كلمة الجحيم استخدمها تقريباً كل شخص قابلته خلال الأشهر التي قضيتها في المخيم. كان هناك العديد من التقارير الإخبارية عن هؤلاء الناس الذين يعيشون في الأدغال، لكن تلك التغطيات سطحية، سواء بشكل مقصود أو غير مقصود، لكن كان في ذلك انتقاص من إنسانية هؤلاء البشر. ومعظم الناس الذين تحدثت إليهم إيمانهم ضعيف بالميديا، لأن العديد من وكالات الأنباء ووسائل الإعلام على اختلافها زارتهم، إلا أنها لم تسهم في تغيير واقعهم المرير».

استثمار المأساة

تضغط الحكومة الفرنسية على بريطانيا بقضية لاجئي مُخيم «كاليه». هو السيناريو ذاته الذي ضغطت به تركيا على الاتحاد الأوروبي بقضية تدفق اللاجئين السوريين. حصلت فرنسا منذ أيام على مبلغ 2,7 مليون يورو من الحكومة البريطانية من أجل بناء سياج بين المخيم والطريق الدولية بطول 1 كلم وارتفاع أمتار، وتحقق فرنسا مكاسب كثيرة وفق هذا الابتزاز منذ سنوات.
يقول إسماعيل، وهو شاب عراقي يقيم في المخيم منذ عام لـ«لأخبار»: «أحاول كل يوم العبور إلى بريطانيا، لكني لم أنجح بعد. وضعنا مأسوي هنا، ولا نريد أن نقدّم طلب لجوء في فرنسا، لأن الحكومة لا تقدم شيئاً للاجئين، نتعامل مع مهربين أكراد، وكذلك فرنسا تعتمد على بعض الأكراد (الذين تقدّم لهم بعض الامتيازات) بشكل أساسي كمافيا للتهريب تبتز بها بريطانيا».
ويضيف: «كثيرون يستغلون مأساتنا، فتح الأفغان المقيمون في بريطانيا وفرنسا مطاعم ومحلات تجارية ومقاهي وحتى ملاهي ليلية وحمامات. تجارتهم تدرّ ذهباً هم يبيعون كل شيء بدءاً من الحشيش وليس انتهاءً بالبشر».
تجارة البشر هي الأربح في «كاليه»، وتصل كلفة تهريب «النفر» من فرنسا إلى بريطانيا إلى 10 آلاف يورو، لمسافة لا تتجاوز خمسين كيلومتراً. يقصد أغلب الفرنسيين المخيم للحصول على الحشيش والمخدرات، كذلك راجت الخدمات الجنسية في المخيم، إلا أن الإسلاميين يهاجمون أي مكان يتأكدون من أنه يُسهّل الدعارة في القرب من خيامهم أو أماكن عبادتهم.




«صراع ديني»

يضم المخيّم أربعة مساجد، أكبرها مسجد «عمر» الذي يتسع لنحو 1500 مُصلٍّ. وهو عبارة عن خيمة مستطيلة كبيرة وعالية، أرضها مفروشة بالسجاد وفيها منبر خشبي وإذاعة صوتية ومكتبة ضخمة تضم مئات المصاحف والكتب الدينية. يتولى إمامة المسجد في الوقت الحالي شاب أفغاني، إلا أنّ الصراع على الإمامة ما زال قائماً ويتخذ طابعاً قومياً بين العرب والأفغان. كلاهما يرى أحقيته في إمامة أكبر مساجد المُخيم. ينتقد المسلمون العرب عدم إجادة الإمام الأفغاني للغة العربية، وإطالته في خطبة الجمعة، وعدم تركيزه على موضوع مُعين، إلا أن العرب أقلية قياساً إلى عدد الأفغان الكبير.
تحدث إبراهيم لـ«لأخبار»، وهو شاب مصري كان إمام مسجد «عمر»، ويقيم في المخيم منذ عام ونصف عام بانتظار فرصة مناسبة للعبور إلى بريطانيا: «ما نعانيه هنا هو بسبب بعدنا عن الله، لذلك سلّط علينا حكاماً ظالمين شردونا في أصقاع الأرض، يموت الشباب يومياً وهم يحاولون العبور إلى بريطانيا، الظلم جعلنا نخاطر بأرواحنا للوصول إلى تلك البلاد. لا يُمكن أن نلوم الفرنسيين أو غيرهم إن لم يكن في بلادنا خيرٌ لنا فماذا ننتظر من الغريب؟».
وُيضيف: «المشكلة أننا جئنا هنا وجلبنا خلافاتنا الدينية والسياسية معنا، نسمع الشتائم وحقناً للدماء نتجاهل كل ما نسمعه من إساءة، والمصيبة أنها لا تأتيك من غريب هي تأتيك من أخيك المسلم».
ليس بعيداً عن المسجد، بنى شباب عرب مسلمون «حوزة دينية» يمارسون فيها طقوسهم وعباداتهم بعيداً عن مساجد «الآخرين» حيث يتعرضون فيها للمضايقات بسبب اختلاف المعتقدات وطرق العبادة. وهذا ما يؤجج الصراع بين الطرفين ويتخذ طابعاً طائفياً في الخطب والمناسبات الدينية التي تُقام في المُخيم. كذلك بنى المسيحيون المنحدرون من الشرق الأوسط ودول أفريقيا كنيسة كبيرة من ألواح الخشب يمارسون فيها طقوسهم بعيداً عن «الصراع بين المسلمين».