منذ أيام، بدأ مركز "دعم لبنان" سلسلة من النقاشات بعنوان "قهوة الجندر" بهدف إنشاء فضاء غير رسمي للنقاش حول مواضيع ذات صلة بالجندر في لبنان. خصصت الجلسة الأولى لمقاربة مسألة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من منظور جندري، وتحديداً غياب هذه الحقوق عن برامج منظمات "المجتمع المدني"، وعدم ربط قضايا الجندرية بالحقوق الإقتصادية والاجتماعية. في الواقع، إنطلقت الجلسة من نقطة مثيرة: جزء كبير من النساء اللواتي يعملن في منظمات نسوية ترفع قضايا المرأة وحقوقها، ليس لديهنّ ضمان اجتماعي أو عقد عمل، وبالطبع ليس لديهنّ نقابة.توزّع النقاش بين مسألتين: عدم اهتمام المنظمات النسوية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وربط الأمر بإشكالية اساسية تعاني منها منظمات "المجتمع المدني" ككل ولا تنحصر فقط بالمنظمات النسوية، هي بمدى قدرة المنظمات على تحديد أجنداتها وعلاقتها مع الجهات المانحة.
يدرك الحاضرون ان "النظام العالمي بطبيعته اقصائي ويميز كل الفئات الضعيفة والمهمشة وهذا خلل في طبيعة النموذج التنموي القائم"، على ما يقول زياد عبد الصمد، المدير التنفيذي لشبكة المنظمات غير الحكومية العربية للتنمية. لكن اذا كان النظام "بطبيعته اقصائيا وتمييزيا" فهل تدخلات منظمات المجتمع المدني تمس بالنظام؟ الإجابة الصريحة منهم هي أنّه ليس من السهل المس بالنظام. نستنتج اذاً انه طالما تتجنب المنظمات المس بالنظام فهذا يعني انها لن تغير شيئاً جوهرياً، إنما ستقتصر تدخلاتها على القشور.
في مداخلتها، تلفت المحامية منار زعيتر من التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني، الى ضعف موجود لدى المنظمات النسوية في التركيز على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. برأيها ان "المنظمات التي ترفع الصوت ضد العنف الاسري لا تربط القضية مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية برغم اهمية هذا الربط. فالفقر والبطالة يزيدان من العنف الممارس ضد النساء وتحديداً العنف الجنسي، وعلى سبيل المثال يعد الفقر احد اهم اسباب الزواج المبكر". تشرح زعيتر كيف تحولت المنظمات الى مؤسسات لديها ضعف في امتلاك خطاب وغياب في الرؤية لقضايا النساء ضمن المنظومة السياسية، معتبرةً انه يجب إعادة بناء حركات اجتماعية.
ما حاول المشاركون التعبير عنه في النقاش "بطريقة ملطفة" هو التالي: في "المجتمع المدني" الحالي لا قضايا، إنما trends تظهر فجأة وتختفي فجأة حسب التمويل المتوفر، من قضايا الدعارة وزواج القاصرات ومكتومي القيد وصولاً اليوم الى الـ trend المنصوص عليه في أجندة 2030 للتنمیة المستدامة المتمثل في الشراكة بين القطاعين العام والخاص. "الممولون هم الذين يفرضون أجنداتهم على المنظمات وليس نحن من نستطيع أن نضع أجندتنا. من لديه القدرة اليوم على وضع أجندته؟"؛ هذا السؤال الذي طرحته إحدى المشاركات في النقاش يتعمق فيه تقرير صادر عن مركز "دعم لبنان".
في "المجتمع المدني" الحالي لا قضايا إنما trends تظهر وتختفي فجأة حسب التمويل المتوفر

تحوّل الحركات النسوية النضالية الى "منظمات"

يبحث التقرير في "الأطراف الفاعلة في مجال الجندر وتدخلاتها في لبنان"، ليجري نقداً واقعياً للمنظمات النسوية مبني على مسح أُجري عام 2015 شمل 36 منظمة تعنى بشؤون المرأة. إلّا أن هذا النقد الذي يستهدف المنظمات النسوية، يمكن تعميمه كنموذج واضح عن طريقة عمل جميع منظمات "المجتمع المدني" والـ NGOs.
في استعراض تاريخي موجز لتحوّل الحركات النسوية النضالية الى "منظمات"، ينطلق التقرير من ان "المنظمات النسائية اللبنانية بلغت ذروتها بعد انتهاء الحرب الأهلية. وقد صادفت هذه الفترة مع انتهاء حقبة الحرب الباردة التي تميزت بضخ أموال خارجية ضخمة للمنظمات غير الحكومية اللبنانية بغية تنفيذ سياسات ما بعد مرحلة الحرب الباردة كـ "إرساء الديمقراطية" و"الحوكمة الرشيدة". مع تصديق لبنان عام 1997 على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة بدأت المنظمات غير الحكومية تنخرط في العديد من الشبكات الدولية، "ما ساهم بالتالي ببروز منظمات مراعية لمتطلبات تنفيذ المشاريع إذ تعمد الى استهداف النساء من خلال الإستجابة لإحتياجاتهن وتحقيق حقوقهن. هكذا حلت المنظمات المستهدِفة لجوانب محدَّدة من قضايا المرأة تدريجيا محل المنظمات النسوية، أو المنظمات التي تعتمد نهجا نسويا واضحا".
يستخلص السرد التاريخي وصولاً الى اليوم، الإشكالية الكبرى التي فتكت بـ "المجتمع المدني" والمتمثلة بأثر الأجندات الدولية المنفَّذة عبر الجهات المانحة على المشهد المحلي. يقول التقرير ان هذا الأثر بقي متفاوتا. فالأجندات الدولية "أحدثت حسا من المنافسة وسجالا بين المنظمات النسائية"، سعيا للحصول على تمويل ما اعاق جهود تحقيق أي عملية تنسيق وإنجاز اي عمل جماعي متفق عليه، كما "أنتجت مشاريع قصيرة الأمد وغير قابلة للإستدامة لإرتهانها بتوافر التمويل، من جهة، وأضفت طابعا مهنيا على عمل كان في السابق تطوعيا صرف".
وعليه يسعى التقرير للإجابة على سؤالين أساسيين يوجّهان لـ"المجتمع المدني": إلى أي مدى تساهم توجهات التمويل في تحديد ملامح تصميم المشاريع على المستوى المحلي؟ وهل المشاريع القصيرة الأمد والمتمحورة حول توفير الخدمات تساهم في تنقية التغيير الإجتماعي الذي يمكن لهذه المنظمات إحداثه؟

15 جهة مانحة تموّل منظمة واحدة!

إنطلاقاً من هيكليات تمويل المنظمات المحلية يتبين أنّ هناك أنواعاً مختلفة من الجهات المانحة في مجال القضايا النسوية، وبشكل أساسي وكالات الأمم المتحدة، والسفارات الأوروبية، والمؤسسات الدولية، فضلا عن المنظمات غير الحكومية الدولية، وشركات القطاع الخاص الأجنبية (مثال شركة روش للصحة) وشركات خاصة لبنانية.
وعند تحليل هيكليات تمويل المنظمات النسوية في لبنان، يبدو أن هذه الأخيرة تعتمد إلى حد بعيد على التمويل الدولي، وفق ما خلص اليه المسح. فقد أعلنت 29 منظمة انها تحظى بتمويل جزئي أو كلي من الخارج، في حين أن عدداً من المنظمات الأخرى تعتمد على رسوم الخدمات والعضوية، كما على أموالها الخاصة لتموِّل بشكل كلي أو جزئي أنشطتها. إلى ذلك، صرَّحت منظمة واحدة فقط أنها تحظى حصريا بتمويل وطني الى جانب الهبات، وأعلنت منظمة واحدة ان بإمكانها أن توفر استدامتها الذاتية، إذ ان استراتيجيتها الإقتصادية الذاتية تشكل مصدر تمويلها. الجدير بالذكر هو توثيق التقرير إدارة منظمة واحدة حاليا مشاريع تحظى بتمويل من 15 جهة مانحة مختلفة! وعليه، "يسلط اعتماد المنظمات المحلية إلى حد كبير على التمويل الدولي الضوء على العلاقة المعقدة القائمة بين المانحين الدوليين والفاعلين المحليين. فمن شأن ذلك بدوره أن يثير تساؤلاً بشأن التأثير المزعوم لما تعتمده الجهات المانحة من لغة وسياسات على كيفية تحديد المنظمات لهويتها ولمجال عملها". يعطي ممثلو المنظمات مثال العنف القائم على النوع الاجتماعي لايضاح كيف ان موضوعا محددا قد يجذب كل مصادر التمويل.
من بين 36 منظمة نسوية تجاوبت مع المسح يتبيّن أنّ 27 منها تركز بشكل اساسي على مسألة حقوق المرأة، تليها 13 منظمة تركز على مسألة المساواة بين الجنسين، 5 منظمات على الزواج المبكر و4 منظمات على مسألة المثليين والمثليات والمتحولين (هناك منظمات تركز على أكثر من مسألة).
أمّا في ما يتعلق بنوعية التدخلات فيظهر انّ مسألتي التوعية والتنمية الإجتماعية تشكلان مجال التدخل الرئيسي لدى المنظمات حيث صرحت 27 منظمة انها تعتمد على التوعية. ويدل ذلك وفق التقرير على "مستوى عال من المهنية في صفوف موظَّفي هذه المنظمات، إذ إن تنفيذ هذه الأنشطة يتطلّب امتلاك مهارات عالية. كما يدل أيضا على التوجه العام السائد ضمن منظمات المجتمع المدني بالتحول إلى طابع المنظمات غير الحكومية". إلا أنّ التقرير ما يلبث ان يوضح الأثر السلبي لهذا "الطابع المهني" إذ ساهمت مطالب الجهات المانحة (مثل رفع التقارير المالية واللوجستية) بزيادة الحاجة إلى موظفين ماهرين، وبالتالي بروز الحاجة إلى تمويل مستدام من أجل توفير حسن سير عمل المنظمة. يصل التقرير الى ملاحظة مهمة: أثّر الطابع المهني على علاقة المنظمات بمجتمع النساء الذي تعمل على مساعدته أو تمثيله، إذ إن المنظمات عملت كمزوِّدة خدمات للنساء معتبرةً إياهن الجهات المستفيدة مما توفِّره من خدمات، بدلا من أن تعمل معهن كشريكات متساويات معها، مرسِّخة بذلك فكرة الهرمية.




منظمات منفذة لسياسات الجهة المانحة

يخلص التقرير الى نتيجتين أساسيتين: الاولى مفادها ان لا شراكات متوازنة بين المنظمات غير الحكومية والجهات المانحة. اذ ان وكالات التمويل قلما تشرك شركاءها المحليين في بلورة السياسات. وفي هذا الصدد أظهر العمل الميداني أن "بامكان المتطلبات المهنية المساهمة تحويل منظمة شعبوية التوجه ومناضلة الى مجرد منظمة مختصة في تزويد الخدمات. كما ان من شأن القيود التي تفرضها الجهات المانحة ان تقوض استقلالية المنظمات المحلية وملكيتها لما تقوم به من تدخلات"، لتصبح مجرد منظمات منفذة لسياسات الجهات المانحة.
والنتيجة الثانية تتعلق بتغليب المشاريع القصيرة الامد على الاستراتيجيات الطويلة الامد وما ينتج عنها من حالة لا استقرار "تساهم في تغذية ثقافة المنافسة التي تنظر الى المنظمات على انها "شركات" (...) فممارسات التمويل التي تعتمدها الجهات المانحة تساهم في تأجيج الفرقة بين المنظمات عبر تجزئة التمويل والمشاريع والمبادرات". فالمشاريع القصيرة الأمد أثرها محدود ولا تحدث اي تغيير مجتمعي، وهو ما يدركه جميع العاملين في المنظمات وفق اعترافاتهم في التقرير؛ حتى أن مدير احدى المنظمات اعتبر أن "نموذج الادارة الحالية للمنظمات أشبه بنموذج ادارة الاعمال التجارية: أي البحث أولاً عن مصادر تمويل ثم العمل على تنفيذ المشروع".




مصادر التمويل

بعض مصادر التمويل الخاصة بالفاعلين في مجال الجندر الذين تم مسحهم في التقرير:
■ المنظمات التي تعتمد حصرا على مصادر التمويل والهبات الدولية:
مشروع الف، أبعاد: مركز الموارد للمساواة بين الجنسين، نساء رائدات، مجموعة ابحاث والتدريب للعمل التنموي، جمعية موزايك/ Mosaic، اتحاد النسائي العربي الفلسطيني/ PAWL، المؤسسة العربية للحريات والمساواة، عدل بلا حدود، منظمة "شيلد"، كفى عنف واستغلال.
■ المنظمات التي تعتمد على مصادر التمويل الوطني والمنح والهبات الوطنية:
المجلس النسائي.
■ المنظمات التي تعتمد على المنح ومصادر التمويل الوطنية، ورسوم العضوية، والهبات:
جمعية الشابات المسلمات وباحثات ــــ تجمع الباحثات اللبنانيات.
■ المنظمات التي تتمتع باكتفاء ذاتي:
تجمع النهضة النسائية.