في ظل استمرار الشغور الرئاسي منذ عامين ونيف، تعلو نظريات المؤامرة بكثرة. مصادرها متقابلة ومتداخلة. كلٌ من طرفي الصراع، يتهم خصومه علناً. ويكاد لا يجزم همساً وسراً، بنفي بعض التهمة حتى عن حلفائه. أما القاسم المشترك بين كل التهم والحملات ومصادرها وأهدافها، فعنوان واحد: يريدون الانقلاب على النظام! لكن أي انقلاب؟ وعلى أي نظام؟النظرية الأكثر شيوعاً وصخباً، هي تلك التي يطلقها خصوم حزب الله. وبعض التدقيق في مضمونها يظهر أن مطلقيها يسحبونها على مجمل ما يسمونه "الشيعية السياسية" في لبنان اليوم. يختصر هؤلاء إشكالية الرئاسة باختزال تبسيطي: حزب الله يقدر في لبنان على كل شيء. حزب الله لم يدفع حلفاءه إلى تبني ترشيح ميشال عون رئيساً للجمهورية. إذن حزب الله لا يريد رئيساً. لماذا؟ لأن حزب الله يريد إسقاط نظام الطائف...
البديهي أن في تلك المعادلة المبتسرة، مغالطات وعقداً، بقدر عدد كلماتها أو حتى الحروف. فلا قدرة حزب الله مطلقة. تكفي للدلالة تعقيدات الصراع الدولي والإقليمي حول هذا البلد. وتأثيرها على استمرار الشغور. لكن أمراً واحداً يستبطنه اتهام خصوم حزب الله له بالتحضير لانقلاب على النظام. إنه الاعتراف بأن "الطائف السوري" القائم منذ 13 تشرين الأول 1990 حتى اليوم، إنما هو نظام الأرجحية الواضحة للسنية السياسية في البلد. هذه هي حقيقة الاتهام الموجه وعمقه الفعلي. خصوصاً في ما يخفيه بعض صقور الفريق الأزرق. حين يكشفون، همساً، اعتقادهم بأن تعطيل الرئاسة هو نتاج تناغم كامل وخفي بين حارة حريك وعين التينة. يرددون: إنه توزيع أدوار. الضاحية تقول لنا إنها مع عون. حين نبحث في الموضوع جدياً، نواجه بفيتو عنيف من قبل عين التينة. يبلغ حد التهديد بالمقاطعة واستنفار فرنجيه. نسأل الضاحية مجدداً، يقولون إنهم لا يملكون قدرة إقناع حلفائهم... هي مجرد مناورة. ينفذونها بالتكافل والتضامن، لأنهم يعتقدون أن ميشال عون هو الورقة الذهبية التاريخية المتاحة لهم، لدكّ نظام السنية السياسية، من دون أن يتحملوا هم أي مسؤولية في ذلك!
في المقابل يسود اعتقاد – اتهام مقابل في الوسط المقابل. يقول خصوم الفريق الأزرق، ان الصورة الكبرى باتت واضحة. وإن الإطار العام لسياق الكباش صار مفهوماً. السعودية لم تعد مهتمة بالملف اللبناني في ذاته. أولوياتها تبدأ من اليمن والضفة الأخرى من الخليج، وتنتهي في دمشق ومؤثرات ضفاف المتوسط. بيروت لا تعنيها كهدف قائم في ذاته. لذلك كل الحديث عن نظام الطائف ومخاطر سقوط الطائف وخسارة مكتسبات الطائف على مدى عامين ونيف، لم يبدل حرفاً في السياسات السعودية المرسومة. يعتقد هؤلاء بأن الاستراتيجية الأساسية للموقف السعودي تتمثل في مواجهة إيران. وطبعاً في ضرب سلاسل نفوذها من الخليج، وصولاً إلى جسر طهران بغداد دمشق بيروت. لذلك، يعتقد خصوم السعودية بأن هدفها الأول، هو تحويل لبنان حلبة أخرى من حلبات الصراع بين إيران وخصومها. وبالتالي جر بيروت إلى التحول ساحة جديدة للحرب بين حزب الله والمتطرفين السنة. هو الهدف الذي لا هدف يعلو فوقه. حتى واشنطن أدركت ذلك بحسبهم. فانكفأت عن مقاربة الرياض في المسألة اللبنانية، حتى لا تفاتح هناك بالاستدراج إلى اتفاق شامل، لا تنوي الإدارة الأميركية فتحه الآن ولا مصلحة لها وسط استمرار غموض الساحات وغبار المعارك. خصوم الفريق الأزرق يتهمونه بأنه بات راضخاً أو راضياً لرهان نسف الطائف، عل سقوطه يؤدي إلى تطويق مذهبي إضافي لحزب الله، وفوضى سورية في لبنان، وحرب على الطريقة السورية فيه، ما يدفع الغرب إلى فرض تسوية شاملة تعيد النظر في التوافق الدولي حول "هدنة دمشق". خصوم "المستقبل" يتهمونه ببساطة، بأنه رضخ لخيار التضحية بالطائف، من أجل إسقاط نظام الأسد وحزب الله معاً. وهو يسير باللعبة مرغماً، أو لحسابات غير لبنانية أخرى. وإلا، كيف أمكن لسمير جعجع أن يؤيد عون من دون خسارة علاقاته السعودية، ويعجز ابن الحريري عن ذلك؟!
بين الاتهامين الانقلابيين، ثمة اتهام انقلابي ثالث. في الوسطين السني والشيعي كما المسيحي، يساق اتهام ضد تقاطع مسيحي فاعل ومؤثر لدى أكثر من فريق مسيحي، بأنه بات يائساً كلياً ونهائياً من إمكان استعادة أي دور أو توازن أو حفظ حضور أو ضمان وجود، في ظل نظام الطائف. ويقول الاتهام الثالث المذكور بأن هذا التقاطع المسيحي بات يراهن فعلاً على سقوط النظام، في لحظة إعادة رسم الخرائط والحدود وأشكال الأنظمة وتراكيب الدول في المنطقة. عل الفوضى الخلاقة المتولدة عندها، تخلق فرصة في صيغة أفضل، مقارنة بوضع بات يعتبره الأسوأ بالمطلق المؤبد!
أياً تكن صحة تلك الاتهامات. وأياً تكن جدية مطلقيها، اقتناعاً أو استثماراً، يظل ضرورياً تذكير هؤلاء، بأن لبنان سبق واختبر محاولة، بلا محاولات لقلب نظامه. حتى أن حرباً شرسة خيضت من قبل الجميع، وطيلة عقد ونيف، بهدف تغيير النظام. بدأت الحرب سنة 1975 وسط مشاريع انقلابية ثلاثة على الأقل: من كان يحلم بلبنان أكبر، ومن يحلم بلبنان أصغر، ومن يحلم بلبنان من دون طوائف. في ختام الحرب، سقط كل الحالمين، وصمد النظام. حتى بدا سنة 1990 أن كل المتحاربين خرجوا مهزومين في مشاريعهم، ووحده النظام انتصر في هشاشته الموقتة الدائمة... مجرد عبرة وذكرى، لمن يخطط لأي خطوة في المرحلة الراهنة المقبلة!