أربكتني دعوة ملحق «كلمات» للكتابة حول تجربة كتابة روايتي الأولى «الملكة المغدورة». مبكّرٌ بالنسبة لي استحضارُ ذكرياتٍ زمن البدايات، أنا الذي ما زلت أفضِّلُ النظرَ إلى الأمام. أسعدتني الدعوة أيضاً لأنها تجربةٌ ممتعة، كتجربةِ الحديث عن يوم العشقِ الأوّل!
يصعبُ أن أتحدّث عن يوميات البدايات دون أن أقف عند تاريخين جوهريين. الأول: يومٌ واحدٌ أحد في أواخر سبتمبر 1976، سافرتُ فيه من عدن إلى فرنسا للدراسة. بدأتُ يومها حياةً جديدة في عالمٍ مختلفٍ تماماً، بلغةٍ جديدة (الفرنسية). وصلتُ وأنا لا أعرف منها غير كلمتين: ميرسي، وبونجور. ثمّ بدأتُ دراستي للرياضيات الحديثة التي وصلتُ وأنا أجهلها أيضاً، لأنها لم تدخل آنذاك في مناهجنا القديمة جداً في عدن. ولزمني حينها، قبل خوض الدراسة الجامعية، تعلّمُ ما درسه الطالب الفرنسي في الرياضيات خلال الإعدادية والثانوية. التاريخ الثاني: 21 يناير 1992. يوم إنجاز أطروحة «التأهيل لقيادة الأبحاث»، بعد 4 سنين ونصف فقط (فترة صغيرة قياسية) من الدكتوراه في 1987 في موضوع يقع في تقاطع علوم الكمبيوتر والرياضيات التطبيقية.
قبل التاريخِ الأوّل كنت أعشقُ الشعرَ بضراوة، أكتبهُ أيضاً. نشرتُ قصيدتي الأولى في مجلة «الحكمة» اليمنية في سنٍّ مبكّر. بعدهُ، كان لزاماً علي أن أنسى الأدبَ موقتاً، وأغرقَ في الدراسات العلمية، بشكلٍ سمح لي، بعد حوالى 15 سنة، التحوُّلَ من شبهِ أمّيٍّ في مجال تخصصي، إلى بروفيسورٍ جامعي فيه، وأنا في السادسة والثلاثين من العمر.
لم أطلِّق الأدب خلال هذه السنوات النورانية الخمسةِ عشر: مارستُ الشِّعرَ خلالها مع ذلك بين الآن والآن. كتبتُ عدداً من أنصاف القصائد، وقصائد قليلة مكتملة نشرتُها لاحقاً في ديوانٍ صغير عنوانه «شيءٌ ما يُشبِهُ الحب».
الأهم: أسرني خلال هذه السنوات المباركة، بعد أن تمكّنتُ من اللغة الفرنسية، اكتشافٌ وعشق غيّرَ مجرى حياتي بحق: قراءة الرواية الفرنسية. أصبح، مع مرِّ الزمن، عشقاً يضاهي عشقي للرياضيات وعلوم الكمبيوتر! الغريبُ جدّاً، الذي لم أدركه إلا لاحقاً، هو أنه أثناء قراءتي للروايات (في أمسيات وإجازات ورؤوس أسابيع تلك السنوات النورانية) كانت تتراكم في رأسي مواد خام روائية كثيرة: حوارات، أحداث تخييلية، لعبٌ روائيٌّ على يوميات الواقع اليمني والعربي والفرنسي وبلدان سفراتي المتعددة، تراكمٌ لذكرياتٍ وشخوصٍ يعيد التخييلُ صياغتَها يوماً بعد يوم، واختراعٌ لأحداث وشخصياتٍ تخييليةٍ محضة... كنتُ، في أحاديثي مع الأصدقاء والزملاء، أسرِّبُ أحياناً حكايات منتقاةً من ذلك المنجم، وألاحظُ مدى أسرها لهم. أعيدُ تشكيلَها وتأثيثَها وتوسيعَها يوماً بعد يوم، أرتِّبها في أرشيف دماغي بانتظار موعدٍ مجهولٍ ما...
لم أنم في مساء 21 يناير 1992!
سؤال أشعلَ أرقَ كلِّ تلك الليلة: ماذا أريد أن أعمل الآن؟ كنت أعرف يومها أني بدأت صفحة جديدة من حياتي المهنية وأنا في طريقي للتحوِّل، بُعيدَ أشهر، إلى بروفيسورٍ يستطيع تنظيم وقته وبرامجه المهنية بشكلٍ أكثر حريّة وديناميكية. غير أني تأخرتُ 15 سنة تقريباً عن الكتابة الأدبية التي تفجّرتْ الرغبةُ المضطرمةُ في خوضها بشكلٍ دائم، في تلك الليلة الليلاء. كلُّ تراكمات المواد الخام الروائية التي تشكّلت خلال سنوات، كانت تغلي في داخلي بقوّة. تنتظرُ أن أسكبها على صفحات...

كتبت روايتي الأولى بالفرنسية التي كتبتُ بها أطروحتين علميتين وعدداً كبيراً من المقالات العلمية، والتي أستخدمُها يومياً في عملي


شعرتُ منذ تلك الليلة بحاجةٍ ماسّةٍ لأن أكتب نصّاً أدبياً. لم يكن بالإمكان كتابتهُ إلا بالفرنسيةِ التي كتبتُ بها أطروحتين علميتين كبيرتين، كتاباً علميّاً، وعدداً كبيراً من المقالات العلمية، والتي استخدمُها يوميّاً في عملي، والتي لم أقرأ الروايات إلا بها خلال كلِّ تلك الخمس عشرة سنة، وإن لم أستخدمها في الحقيقة للسردِ غير العلمي إلا في بعض الرسائل الغرامية، لا غير.
ماذا أكتب؟ ثمّة شيءٌ ضاغطٌ في حياتي بحاجةٍ إلى تحريرٍ وسرد: ثلاث ملِكاتٍ مغدورات في نفس الآن!
عدن التي دمّرتها حرب 1986 وقضت على كل أحلام أبنائها.
أمّي التي وصلتْ إلى فرنسا قبل أشهر من تقديم أطروحتي الثانية مصابةً بسرطانٍ مستفحل، عُولِج خلال أشهر في عدن كما لو كان كلّ الأمراض إلا السرطان، ما زاد من تعقيد حالة أمي التي عشتُ معها في المستشفى أسبوعين كاملين حتّى مفارقتها الحياة أمامي.
وأخيراً ملِكة شطرنج ذبحَها أبو الراوي، بطريقة داعشية، وذلك في معمعان سبعينيات عدن الماركسية!... ملكةُ الشطرنج هذه كانت جرحَ حياتي الذي لم يندمل، والذي انطلقتْ منه الأسطر الأولى من رواية «الملكة المغدورة» وانتهتْ فيه.
بدأتُ بعد ذلك تجربة الكتابة بالفرنسية لروايتي الأولى التي تفتّقتْ في تلك الليلة الليلاء التي قدمتُ فيها أطروحتي الثانية. لم يكن ذلك سهلاً بالطبع، لكني كنتُ مدفوعاً بنفس الحماس الشغوف الذي سمح لي بالدراسة العلميّة انطلاقاً من الصفر. أشهر وسنين من الصياغة البطيئة وإعادة الصياغة، قبل اكتمال النص الذي بعثته لأكثر من دار نشر. لم تكن لديَّ معرفةٌ شخصية بدور النشر. كان يهمني أن تخرج الرواية مطبوعةً كما كتبتُها بعد طول معاناة. إحدى دور النشر المهمّة ردّت عليّ ردّاً جيّداً يفتح الباب لتوجيه صيغة روايتي، لتهذيبها والاتفاق على عنوانٍ آخر لها، في سيرورةٍ بدا لي أنها ستطول.
اخترتُ دار نشرٍ وافقتْ عليها بشكل كليّ. ربما كان عليّ أن أختار التجربة الأولى، لست أدري.
كنتُ سعيداً جداً بالطبع، لأن سوقَ الرواية زاخرٌ وتنافسيٌّ وعريق في فرنسا، ولأني لم أكن أبحث إلا عن التعلِّمِ من هذه التجربة الأولى، لا سيّما أني كنتُ أعيش في عالمٍ مهنيٍّ بعيدٍ عن عالمِ النشر الأدبي وما يتطلبه من حضورٍ وتفاعلات ومراسلات.
تلى نشرَها مقالان عنها، مقابلة في إذاعة «فرنسا الثقافية»، فعالية عنها في نادٍ ثقافيٍّ في باريس، واستشهادات متعدِّدة منها عند الحديث عن اليمن وعدن في السبعينيات.
احتفظُ برسالتين مشجّعتين وصلتني عنها: واحدة من نادٍ ثقافي في مدينة ليون دافع عنها لتحظى بجائزة أول رواية في مهرجانٍ للرواية. (كنت أجهل كل شيءٍ عن هذه المهرجانات والنشاطات). دعاني النادي لعشاءٍ وأمسيةٍ ثقافية في ليون، لم أتمكن من حضورها. الأخرى من سيّدة متقاعدة تقول لي إنها صحت من نومها في منتصف الليل، لتهرعَ باتجاه حديقة مجاورة لمنزلها كانت فيها في العصر تقرأ الرواية أثناء نومِ حفيدها الصغير بجوارها. هرعَتْ لأنها ظنَّتْ في نومها أنها نسيت الرواية في مقعدٍ في الحديقة. أحداثٌ صغيرة لا تستحق الذكر، لولا دعوة صحيفة «الأخبار» للحديث عن ذلك. بالنسبة لي: كانت تجربتي الأوّلى لا غير. تشبه تقديم امتحانات عامي الدراسي الأول في فرنسا، الذي كان أصعب الأعوام بالنسبة لي، لكنه الفاتحة. تجربةٌ تحتاج لمشاريع أخرى كثيرة لتكتمل.
بدأتُ بعد ذلك كتابة صفحات من روايةٍ ثانيةٍ بالفرنسية، قبل أن أقرأ ترجمة الأستاذ علي محمد زيد لروايتي الأولى إلى العربية، قبل حوالى 16 سنة من اليوم. أسرتني ترجمتهُ الرائعة أسراً. أيقظتْ مئات الكلمات العربية التي كنتُ قد نسيتها. جرّني ذلك لمغامرةٍ جديدة لم تكن في جدول أعمالي حينذاك: محاولة كتابة رواية بالعربية تسمح لي بالتواصل المباشر مع القرّاء العرب.
بدأتُ حينها بنفس الشغف تجربةَ الكتابة بالعربية، التي أثمرت حتّى الآن مجموعةً قصصية وديوانَ شِعرٍ وكتابين فكريين، وست روايات آخرها: «ابنة سوسلوف» (تترجمُ حاليّاً إلى الفرنسية والإنكليزية)، اثنتان منهما كبيرتا الحجم: «دملان»، و«تقرير الهدهد».
المثير جدّاً أيضاً أن الرغبة بمواصلة الكتابة بالفرنسية لم تتوقف. ولأن حياتي دائرية غالباً، يهيمن عليها ما يشبه التماثل الهندسي، أشعر أن رواياتي الأخيرة ستكون بالفرنسية التي وجدتُ لذةً خاصة في كتابة مقالين فيها، في الأيام القليلة الماضية، لصحيفتي «ليبراسيون» و»اللوموند» الفرنسيتين.
بانتظار مراحل جديدة من تجربتي الأدبية، يسعدني أن «الملكة المغدورة»، التي صارت اليوم مغدورةً أكثر من أي وقتٍ مضى، ستصدرُ أخيراً ولأول مرّة بالعربية، خارج اليمن، عن «دار الساقي».
* كاتب يمني مقيم في فرنسا