الشرطة، والقوى الأمنيّة عموماً، في خدمة الشعب. هذه إحدى أشهر "المقولات" العربيّة، وهذا ما يَجب أن يَكون، في بلاد يُقال إنّها ديموقراطيّة و"حقوقيّة". لكن يحصل أحياناً أن يُصبح الشعب ساحة لعرض العضلات "البوليسيّة" الرديئة، ومختبراً لمختلف النزعات النفسيّة التسلطيّة ــ المرَضيّة لبعض "رجال الأمن". هؤلاء، في النهاية، مِن البشر. عادة تُخضعهم مؤسساتهم لدورات تدريبيّة تؤهلهم للتعامل "السويّ" مع الناس. في الآونة الأخيرة، تفاقمت ظاهرة التعدّي على كرامات الناس، بالشتم والإهانة، والضرب أحياناً، بحجّة الحفاظ على الأمن، وذلك على يد مجموعة أشخاص ينتشرون في شوارع العاصمة، في الليل خاصة، بثياب مدنيّة، ليتبيّن في النهاية أنّهم عناصر من مفرزة "استقصاء بيروت" التابعة لقوى الأمن الداخلي. ورغم الإنجازات التي يُحققها هؤلاء في مكافحة الجريمة، إلا أنّ تجاوزات بعضهم بلغت حدّاً لم يعد مقبولاً. الناس في بلادنا، بحسب دراسات سابقة أعدّتها الأجهزة الأمنيّة نفسها، لا يُحبّون "رجال الشرطة" حتى وهم يرتدون ثيابهم العسكريّة، فكيف وهم بكامل عتادهم العسكري، وتسلّطهم الشوارعي، وبثياب مدنيّة لا تميّزهم عن أيّ عصابة مِن قطاع الطرق؟

مدنيٌ يحمل سلاحه بشكل ظاهر ويمشي ضمن «شلّة» على شاكلته. يُحدّق بوقاحة بالغة بالمارة. الانطباع الأولي يشي بأنه ليس سوى شبّيح أو ميليشيوي. لكنه، في الحقيقة، عنصر استقصاء. وفي لبنان، لا يختلف معظم عناصر الاستقصاء التابعين لقوى الأمن الداخلي عن أبناء العالم السُفلي الذين يُفترض أنهم يحابونهم. تكاد السحنة واللباس والنظرات والمشية تكون واحدة. ربما، يتقصّد أبناء السلك الأمني ذلك، أو أنهم، لكثرة احتكاكهم بالمجرمين، تطبّعوا ببعض طبائعهم!
طالما أنّ رجل الأمن ليس في مهمة استقصائية لجمع المعلومات بطريقة سرية، فلماذا لا يرتدي بزّة تدل على صفته؟ ولماذا لا يُبرز بطاقته العسكرية؟ ولماذا يكون عدوانياً في الغالب؟
كيف يمكن التمييز بين رجل الأمن الحقيقي والمجرم الذي ينتحل صفته؟

قد يكون جواب البعض أن هذا جزء من "عدّة" السهر على الأمن، وأن "المدني مع سلاح بيخوّف أكتر من العسكري»! ولكن، ماذا عن تقارير قوى الأمن الداخلي التي تزخر بعشرات الحوادث المتشابهة: شبّان يستوقفون أحدهم ويدّعون أنهم «معلومات" أو "استقصاء» يطلبون منه هويته وينتزعون محفظته منه بحجة التفتيش و«تُفلّى» جيوبه قبل أن تُسلب أمواله. إن قاوم ضُرِب، وإن اشتكى سُجّلت شكواه ضد مجهول. وفي أحد تقارير قوى الأمن، ورد أن مسلّحاً فاجأ شاباً وفتاة كانا في سيارتهما بالضرب على باب السيارة صارخاً: «معك تحري، فتاح الباب»، فامتثلا لمنتحل الصفة الذي كان يحمل مسدساً حربياً وطلب من الفتاة ممارسة الجنس معه. وحين رفضت ضرب الشاب وأجبرها على نزع ثيابها محاولاً اغتصابها. وفي ساحل علما، أقدم مسلحان بثياب مدنية على اعتراض سيارة من نوع "بورش" مدّعيين أنهما "استقصاء"، وضربا سائقها وأجلساه في المقعد الخلفي وتوجّها به إلى منطقة ضبية حيث أنزلاه من السيارة بعد سلبه أمواله وأموال رفيقته وهاتفاً خلوياً وساعة يد، وفرّا بالسيارة. وفي بيروت، ادعى مواطن أمام فصيلة حبيش أن مسلحَين مجهولَين أوقفاه في شارع الحمرا وادّعيا أنهما من عناصر مفرزة الاستقصاء، ثمّ سلباه محفظته وهاتفه الخلوي.
الأحداث من هذا النوع أكثر من أن تحصى، فكيف يمكن لأحد، هنا، أن يُميّز بين رجل الأمن الحقيقي والمجرم الذي ينتحل صفته؟ ولما لا يمكن أن يكون الاثنان واحداً؟ وما الذي يمنع رجل الاستقصاء من أن يتحوّل إلى مجرم يسلب من هم أضعف منه، طالما أنه يمتلك السطوة، وإمكانية محاسبته تكاد تكون معدومة؟ كل هذه أسئلة مشروعة يُفترض بالقيّمين على المؤسسة الأمنية الإجابة عنها.
في الولايات المتحدة، الدولة نفسها التي تُشرف على «كودرة» عناصر قوى الأمن وتأهيلهم مجتمعياً، يكاد لا يخلو فيلم أميركي من مشهد رجل أمن، سواء كان شرطياً أو ضابط استخبارات، وهو يُظهر شارته الأمنية معرّفاً عن نفسه قبل توقيف مطلوب أو لدى استجلاء هوية مشتبهٍ فيه. أما في لبنان، فلا شارة ولا بطاقة. وإن تجرّأت على سؤال عنصر أمني عن بطاقته العسكرية، تكون قد جلبت لنفسك الإهانة، لأن إبراز رجل الأمن بطاقته يعدُّ، في عرف هؤلاء، منقصة ويقلّل من هيبة "إبن الدولة".
قبل أربعة أعوام، دخل مسلّحان بزيٍّ مدني محل المطلوب عنتر كركي في منطقة الغبيري فأطلق النار عليهما. يومها قُتل ضابطٌ في الجيش، فيما فرّ المشتبه فيه. يؤكد كركي لـ«الأخبار» أنّه لم يكن يعلم أنّ المسلحَين عسكريان واعتقد أنهما آتيان لقتله، فأطلق النار عليهما لأنه كان على خلاف مع إحدى العشائر، ولدى علمه بأن من قُتِل ضابط في الجيش، بادر إلى تسليم نفسه. وإذا كانت هذه حال أحد المطلوبين، فكيف يمكن أن تكون حال مواطن يحمل سلاحاً مرخّصاً في حال تعرّضه لـ«غزوة» عنصر استقصاء «متحمّس»!




«الاستقصاء شغّال»

«مفرزة استقصاء بيروت أكثر مفرزة عم تشتغل». بهذه العبارة تعلّق مصادر قوى الأمن الداخلي على التجاوزات التي تُرتكب من قبل عناصر الاستقصاء، مشيرة إلى إنّ «حوادث النشل تراجعت في بيروت خلال الأشهر الأخيرة، لكنّها ارتفعت في جبل لبنان». وتضيف المصادر: «إحصاءات قوى الأمن الداخلي خلال الأشهر الستة الأخيرة أظهرت أنّ هناك تراجعاً في معدّل الجريمة، باستثناء عمليات النشل. غير أنّ نشاط عناصر الاستقصاء على مداخل ومخارج بيروت حاصرها مجدداً». وإذ لا تنفي مصادر قوى الأمن الداخلي احتمال حصول أخطاء وتعسّف في بعض الأحيان في عمل مفارز الاستقصاء، إلا أنّ النتائج التي تُحقق" ترفع لها القبعة، وهامش الخطأ وارد طالما أنّ عنصر الاستقصاء يراقب المجرم والمجرم يراقبه بدوره". وتكشف المصادر أنّ مفرزة استقصاء بيروت توقف يومياً بين ٢٠ و٣٠ مطلوباً.