لم يكن اسم المُخرجة اللبنانية جوسلين صعب (1948) حاضراً في قائمة الشخصيات التي وضعتها الباحثة الفرنسية ماتيلد روكسيل وهي تسعى لإكمال دراسة جامعية كانت تعمل عليها حول سينما المرأة في زمن السبعينيات من القرن الماضي. ستكون المُصادفة وحدها سبباً في حصول التعارف بين الاثنتين، مما سيُجبر تلك الباحثة على إعادة تدوير شغلها على نحو كُلّي لتصبح جوسلين وسينماها محوره وفكرته الوحيدة. وسوف يظهر كل هذا في كتاب «جوسلين صعب، الذاكرة الجامحة» (دار النهار 2015- بيروت) Jocelyne Saab : la mémoire indomptée. جاءت تلك المُصادفة حين عثرت تلك الطالبة في "مدرسة المعلمين العليا" في مدينة ليون على حوار صحافي أُجري مع صعب في عام 1975 ونُشر في ذلك الوقت بالتزامن مع افتتاح عروض فيلمها الأول «لبنان في الدوّامة» (1975) في فرنسا. هكذا فُتحت أمام روكسيل فضاءات وآفاق لم تكن حاضرة أثناء التخطيط لبحثها السابق عبر اكتشافها شخصية مُخرجة مُختلفة، نجحت في تصوير الحرب الأهليّة على نحو مُغاير لتلك الأشكال والمفردات النمطية التي تناوبت على مقاعد الحديث حول تلك الحرب، لتظهر على صورة تكاد أن تكون متطابقة مع بعضها البعض. كانت هذه الخطوة الأولى في رحلة السير باتجاه «سينما جوسلين صعب»، لكن النقطة المفصلية والحاسمة كانت حين قررت في عام 2013 إقامة مهرجان سينمائي أشرفت عليه الناقدة السينمائية الفرنسية نيكول بروني وضمنّته برمجة لأفلام صعب: «لقد شاهدت أفلامها، ولفتتني تلك الطريقة التي تتعامل بها مع صورة الحرب من دون الاعتماد على الصورة الدموية الاعتيادية لها، قلت حينها: سأسافر إلى بيروت وستكون هذه المخرجة موضوع بحثي».
هكذا، كان قدومها إلى بيروت، حيث صارت قادرة على ملامسة شغل جوسلين على الأرض. لكن حصل أنّ مُخرجتنا كانت منهمكة بتحضير مهرجان «الثقافة تقاوم». خيبة أصابت الباحثة التي كانت ترغب في أن يكون كل وقت جوسلين صعب لصالحها خلال ثلاثة أشهر، أي طوال فترة إقامتها البيروتية. إشكالية ترويها صاحبة «دنيا» (2005) في المقدمة التي خصصتها للكتاب. يرد توضيحها للمقترح الذي قدّمته كي لا يضيع وقت روكسيل: «طلبت منها مرافقتي طوال الوقت، وقد يُعطيها هذا فرصة لفهم هذا البلد وإدراك أسبابي التي جعلتني أتناوله بالكيفية التي سرت عليها» وهو ما كان.
منذ بداياتها التلفزيونية، نأت الصورة عندها عن الإطار التقليدي الذي سُجنت فيه

منذ البداية أو من الغلاف الأخير للكتاب، تبدو صاحبته وقد أمسكت بالقواعد التي ستعتمدها أثناء فترة البحث من خلال الاستشهاد بما دوّنته الفنّانة والشاعرة إيتيل عدنان بخصوص صاحبة «بيروت مدينتي» (1982). تشير إلى أنه انطلاقاً من أفلام صعب كما حياتها الحاضرة إلى اليوم، رأت في هذه السينمائية «واحدة من الشخصيات الأكثر ذكاء وشجاعة وحريّة من بين أولئك الذين عرفتهم، طريقة تفكيرها المتحرّرة كلّفتها كثيراً في أوقات كانت القضية فيها عبارة عن مسألة حياة أو موت».
تؤكد ماتيلد روكسيل أنّ كتابها ليس بحثاً في سيرة جوسلين صعب أو تدويناً لمراحل حياتها على الرغم من كونها تستفيد من كل ذلك على نحو يُظهر تلك التحديات التي خاضتها هذه المرأة خلال تلك الحياة، وهي ترفض بشكل دائم فكرة الإذعان لأي إملاءات تأتي بسبب التزامها السياسي الذي كانت مخلصة له. ولم يحصل هذا الرفض في فترة متأخرة أو ظهر نتيجة لوقوف عارض ما أمامها، بل كان رفضاً مؤسساً منذ سنواتها التمهيدية الأولى حين أصرّت على مواجهة أهلها حين أخبرتهم عن رغبتها في العمل السينمائي: «منعوني ورفضوا على نحو قطعي، قالوا لي إنها ليست مهنة للفتيات».
لكن تلك «السينما» لم تحضر دفعة واحدة وفي وقت مُبكر. لقد درست صعب الاقتصاد، واشتغلت في الصحافة والفوتوغرافيا وإذاعة لبنان، وتواجدت في أكثر من جبهة حرب بدءاً من اليمن وصولاً إلى ليبيا ومصر. كل هذا قبل أن تصل خطواتها إلى باريس، لتنطلق علاقتها مع الصورة السينمائية.
أثناء شغلها، سيكون واضحاً تقديمها للالتزام الفني السينمائي على أيّ التزام سياسي أو ايديولوجي آخر. لقد كان هذا أمراً محسوماً لديها، يتطابق مع جملة الخيارات التي حسمتها في وقت مُبكر من مسيرتها، وأنقذها ذلك من الوقوع في فخ الطائفية والايديولوجيات المُلحقة بها.
كل هذا سيكون تمهيداً لدراسة سينما جوسلين صعب التي جاءت في «الذاكرة الجامحة» موزعة على ثلاثة مفاصل: الصورة والجسد وفضاء المدينة، بيروت فترة الحرب الأهليّة وما بعدها مثالاً.
منذ بداياتها التلفزيونية الأولى، ظهرت الصورة لدى جوسلين صعب نائية عن الإطار التقليدي الذي سُجنت فيه. تتعمّد وضع كاميرتها في مناطق لم تصلها عدسة من قبل، وتكاد أن تُنطق الموت الظاهر في كل مكان على نحو يشير باتجاه أكثر من حياة. وفي السياق نفسه، كان لا بد من إجراء عملية إنطاق مماثلة للجسد بطريقة تجعله قادراً على الحكي والتعبير الواضح في مواجهة حالة الصمت التي حُكم عليه بها. وهنا، في ما يخُص الجسد أيضاً، تتجاوز صعب الفضاء اللبناني المحليّ لتضع عدستها في الفضاء العربي، المصري تحديداً وتخوض في عملية أخرى مشابهة هدفت إلى استثمار ذلك الجسد والعمل على إعادة تأهيله، ليعود قادراً على قول شيء والتعبير بلغته الخاصة النائية عن لغة الوصاية وعين الرقيب. لقد اشتغلت على كل هذا في فيلم «دنيا» (2005)، وقدّمت فيه متابعة متتالية للتحوّلات التي تحصل في جسد أنثى حتى بلوغها مرحلة النضوج. خلال كل هذا، توغلت في تحليل هوية الفتاة المصرية وتبيان الصعوبات التي تواجهها لمجرد التعبير عن حالها في مجتمع ذكوري محكوم بضوابطه الصارمة التي تمنعها حتى من متعة النظر أو البوح بمراحل نضوج جسدها الخاص.
تتعمّد صعب هنا منح «دنيا» خيارها الخاص باتخاذ قرارها السير خلف خطوات والدتها التي كانت تحترف الرقص، وبالتالي إنقاذ ذلك الجسد من البقاء على وضعية الجمود التي فُرضت عليه.
وفي ما يخص فضاء المدينة ــ أي بيروت ـــ الذي أهلكت تفاصيله الحروب، نجحت جوسلين في تتبع سيرة ذلك الدمار المُنتشر حين انطلقت من حديقة منزلهم الذي تمّ تدميره في عام 1982 وجعلته قادراً على النطق بلسان قائل بإمكانية خلق حياة ما من قلب كل ذلك الدمار.