منذ حزيران الماضي، بدأ مصرف لبنان بتنفيذ هندسة مالية كانت لها نتائج واسعة في السوق المالية والنقدية. ففيما تمكّن مصرف لبنان من جمع مبلغ يقترب من 12 مليار دولار لتعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية، تبيّن أن المصارف حققت أرباحاً استثنائية في خلال الأسابيع الماضية، بقيمة تبلغ 4.2 مليارات دولار. وهذان الرقمان مرشحان للارتفاع أكثر، ولا سيما أن هذه الهندسة الجارية بلا سقف، بل هي مستمرة ما دامت المصارف قادرة على اجتذاب الدولارات من الخارج ودفع فوائد مرتفعة تسميها عمولات تصل نسبتها إلى 20% و30%.
قرّر مصرف لبنان أن يتيح للمصارف إيداع مبالغ لديه بالليرة اللبنانية
المشكلة في هذه الهندسات لا تكمن فقط في تمكين المصارف من تحقيق أرباح هائلة مموّلة من المال العام، بل أيضاً في أنها خلقت سيولة إضافية بالليرة اللبنانية لدى المصارف بقيمة تزيد على 18 ألف مليار ليرة، بالإضافة إلى الأرباح البالغة نحو 6300 مليار ليرة. كيف؟ الأمر بسيط جداً، فالمصارف باعت لمصرف لبنان سندات الخزينة التي تحملها بالليرة اللبنانية، وهو دفع لها فوراً ثمن السند بسعر إصداره، مع نصف الأرباح التي كانت المصارف ستحققها يوم استحقاق السندات. وفي المقابل، اشترط مصرف لبنان أن تشتري المصارف منه، بنفس قيمة السندات التي باعتها له، سندات بالدولار (يوروبوندز)، أو شهادات إيداع بالدولار يصدرها خصيصاً. هذه الآلية أدّت إلى نتيجة أساسية: مصرف لبنان دفع ثمن السندات من ميزانيته وأصبحت المبالغ بين يدي المصارف التي تريد توظيفها حتى لا تكون عبئاً عليها. هذا يعني أنّ على المصارف استثمار هذه الأموال وفق الخيارات المتاحة لها على النحو الآتي:
ــ الخيار الاول: إقراضها في السوق. ولذلك بدت لوحات الإعلانات المنتشرة على طرقات لبنان وعلى صفحات الإنترنت، «منتشية» بما تقدّمه المصارف عن قروض بالليرة اللبنانية. إحدى الإعلانات تقول: 1100 مليار ليرة مخصصة لإقراض المؤسسات الصغيرة بفائدة 7% للسنة الأولى.
ــ الخيار الثاني: شراء سندات خزينة بالليرة. هذا يعني أنّ على المصارف أن تكتتب في إصدارات وزارة المال لسندات الخزينة بالليرة، علماً بأن حساب وزارة المال لدى مصرف لبنان يسجّل فائضاً يبلغ 11 ألف مليار ليرة، أي إن إصداراً كهذا مخصصاً لامتصاص السيولة المصرفية سيكون محرجاً جداً، لأن لا تفسير له سوى أنه مساعدة للمصارف على تعقيم السيولة وتمويل كلفتها بالأموال العامة.
الخيار الثالث: إيداع هذه المبالغ لدى مصرف لبنان. الودائع التي يستقبلها مصرف لبنان، سواء تلك التي بالدولار أو بالليرة، عليها فوائد لا تتجاوز 2%، وبالتالي إن هذا الخيار ليس مطروحاً بالنسبة إلى المصارف.
الخيارات الثلاثة ليست الحلّ المنشود في ظل أسوأ أزمة سيولة بالليرة لدى المصارف.
القطاع الخاص يعيش أزمة مديونية هائلة تبلغ 105% من الناتج المحلي الإجمالي
فالقطاع الخاص يعيش أزمة مديونية هائلة تبلغ 105% من الناتج المحلي الإجمالي، وحجم نموّ التسليفات تقلص في خلال السنوات الخمس الماضية متأثّراً بالنمو الاقتصادي الضعيف الذي لا يصل إلى 1.5% في أحسن أحواله. أما وزارة المال، فقد أحجمت عن إصدار سندات خزينة إضافية تفادياً لمزيد من الحرج، وخصوصاً أن حجم السندات المطلوبة كبير جداً وسيؤدي إلى زيادة كبيرة في حساب وزارة المال لدى مصرف لبنان من دون أي حاجة فعلية تبيّن أن غالبية المصارف التي شاركت في عملية تسييل السندات، قرّرت أن تزيد استفادتها من هذه العملية من خلال استعمال المبالغ الناتجة من عملية التسييل في شراء المزيد من سندات الخزينة المطروحة في الأسواق، أو تلك التي تصدرها وزارة المال بصورة دورية. المصارف باعت السندات لمصرف لبنان ثم اشترت السندات من السوق وباعتها بعد يوم أو اثنين لمصرف لبنان لتحقيق المزيد من الأرباح. وبالنسبة إلى الخيار الثالث، أي الإيداع لدى مصرف لبنان، فإن هذا الأمر ليس خياراً بالنسبة إلى المصارف الساعية إلى تحقيق المزيد من الأرباح.
إزاء هذا الواقع، قرّر مصرف لبنان أن يضيف إلى «بدعة» الهندسة التي خلقت كل هذه السيولة، منتجاً للودائع المصرفية لديه. قرّر مصرف لبنان أن يتيح للمصارف إيداع مبالغ لديه بالليرة اللبنانية في حسابات مجمّدة على فترات استحقاق من 5 سنوات إلى 7 سنوات و9 سنوات و10 سنوات. الفوائد على هذه الإيداعات المتوسطة والطويلة الأمد، تراوح بين 4.5% و5.5%.
هذا المنتج، أو هذا التعديل على الهندسة المالية، يتيح لمصرف لبنان امتصاص القسم الأكبر من المبالغ التي ضخّها في السوق من خلال عملية تسييل السندات بالليرة. لكن قيامه بهذه العملية، يأتي في إطار امتصاص أي مفاعيل تضخمية لهذه السيولة، وهو بمثابة مرحلة انتقالية قبل أن تعيد وزارة المال إصدار سندات خزينة بأحجام كبيرة تتلاءم مع حاجات السوق. أما الرابح الأكبر، فهو المصارف دائماً، التي ستحقق أرباحاً إضافية من هذه العمليات، بما يوازي 850 مليار ليرة سنوياً كحدّ أدنى، أو 990 مليار ليرة كحدّ أقصى.




قنوات الهدر

دأب مصرف لبنان على تنفيذ ما يسمى «هندسات» مالية ونقدية منذ فترة طويلة متزامنة مع بدء تثبيت سعر صرف الليرة. ليس هناك هدف واحد من هذه العملية، بل هناك أهداف عديدة، إذ إنها أداة يستعملها مصرف لبنان لتغذية النظام المالي والنقدي والدفاع عن سياساته. الهدف من هذه الأدوات، جمع الدولارات من السوق ووضعها في احتياطات مصرف لبنان حيث تستعمل للدفاع عن تثبيت سعر صرف الليرة، مع فرق واحد، هو أن مصرف لبنان استهلك الأدوات السابقة حتى باتت جدواها السوقية ضحلة جداً. فعلى هامش تنفيذ هذه الهندسات، بقديمها وجديدها، تبيّن أن الرابح الأكبر هو القنوات التي تمرّ فيها العمليات المالية والنقدية، أي المصارف التي راكمت رؤوس أموال ضخمة، واستقبلت قاعدة واسعة من الودائع وحققت أرباحاً هائلة على مرّ السنوات.