قبل أيام، شنّ 70 مسلحاً من تنظيم «داعش»، بينهم انتحاريون، هجوماً على حقول عجيل شرق تكريت، منطلقين من تلال حمرين. صدت القوات المتمركزة بين حدود صلاح الدين وتخوم الحويجة الهجوم، وأجبرت المسلحين على التراجع وسط مخاوف من إمكانية بلوغهم المناطق المحررة في الدور والعلم. وقع ذلك بعد 3 أيام فقط من تسلل مقاتلين من التنظيم إلى قضاء الشرقاط شمالي صلاح الدين، عبر الضفة الغربية لنهر دجلة، وسيطرتهم على مسجد البعاجة وانتشارهم في الأزقة.سبق هاتين الحادثتين بأقل من أسبوع تفجير سيارة مفخخة قرب مرقد «العسكريَّين» في مدينة سامراء، أسفر عن سقوط 10 شهداء. تفجير أعقب بساعات انفجار سيارة مفخخة أخرى عند المدخل الجنوبي لتكريت، راح ضحيته عدد من الأشخاص بينهم ضابط برتبة رائد. يومها، لم تكن قد مرت إلا فترة وجيزة على مهاجمة مسلحين من «داعش» مقار أمنية في مدينة كركوك، ومحطة كهرباء في ناحية دبس شمال غربي المدينة.
اللافت أن كل الوقائع المذكورة حدثت بعد انطلاق عمليات تحرير الموصل في 17 تشرين الثاني/ أكتوبر، واللافت أيضاً أنها استهدفت ما تصح تسميته بنك الأهداف المحتوم لبؤرة حيوية لا تزال خاضعة لسيطرة «داعش»؛ هي الحويجة. ليست هذه المنطقة البالغة مساحتها حوالى 3000 كلم مربع، والتي تضم قرابة 400 قرية، تفصيلاً في المشهد. بعضهم يرقى في توصيف أهميتها إلى حد تشبيهها بمدينة الرقة السورية، عاصمة «دولة الخلافة الإسلامية». أهمية تنبع من موقع القضاء (وتحديداً مركزه) الإستراتيجي ودوره المفصلي في «أنشطة» تنظيم «داعش» داخل بلاد الرافدين.
تقع الحويجة جنوب غرب محافظة كركوك، متوسطةً شبه دائرة من مناطق ذات خطورة، هي كركوك (شرقاً)، مخمور (شمالاً)، الشرقاط (غرباً)، تكريت (جنوباً) ومن خلفها سامراء، وبيجي (جنوباً). هذا الموقع أتاح لمسلحي «داعش» الذين سيطروا على الحويجة في 10 حزيران/ يونيو 2014 اتخاذها منطلقاً للتوسع باتجاه صلاح الدين (والسيطرة على حقول نفطية فيها كانت تمثل مصدراً رئيساً لتمويل التنظيم)، ومهاجمة كركوك وديالى، وتنفيذ عمليات انتحارية شمال بغداد.
يشبّه البعض الحويجة بمدينة الرقة السورية، عاصمة «الخلافة»

اليوم، لا يزال التهديد قائماً. صحيح أن تلك المناطق جرى تحريرها وتحصينها، إلا أن حامياتها باتت تصد على نحو شبه يومي هجمات من جهة الحويجة، وفق تأكيدات أحد قادة الحشد العشائري، ما يفتح الباب على عمليات استنزاف وسيناريوهات مقلقة، ولا سيما في الشرقاط، حيث تضيق المساحة بين المناطق المحررة والأخرى «المحتلة» لتبلغ، عند أبعد نقطة بين ضفتي دجلة، 150 متراً فقط. مسافة تجعل الساحل الأيمن أو الجانب الغربي المحرر عرضة لقذائف الهاون ورصاص القناصة يوميا، فضلاً عن الهجمات الجماعية المتكررة التي تسببت بموجات نزوح من القرى المحاذية لنهر دجلة. يُضاف إلى ذلك أن الساحل الأيسر من الشرقاط، الذي لا يزال خاضعاً لسيطرة «داعش»، يمثّل المحطة الثانية من خط إمداد وحيد للتنظيم، يبدأ بالحويجة وينتهي بالموصل.
وما يفاقم من خطورة المعطيات المتقدمة أن الحويجة تُعدّ، منذ استيلاء التنظيم عليها، إحدى أهم مناطق «التمكين» العسكري واللوجستي والإداري والتعبوي؛ إذ إن بداخلها مخازن أسلحة ثقيلة ومراكز تخطيط وتفخيخ ومعسكرات بالعشرات ومحاكم «شرعية» وسجوناً. كما أنه بداخلها يتجمع مقاتلون أجانب وضباط سابقون ومجندون صغار بحسب ما يؤكد تقرير لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى. وتصف «وول ستريت جورنال»، من جهتها، الحويجة بأنها مصدر مشاكل منذ أكثر من 10 سنوات، حتى أصبحت تُعرف بـ«أنبار الشمال»، لافتة إلى أنها واحد من آخر الأماكن الباقية التي يقوم تنظيم «الدولة» بتفخيخ السيارات فيها وتجهيز المتفجرات التي تُزرع على جوانب الطرق وفي المدن والبلدات على نطاق العراق، والتي «أثبتت أنها أكثر أسلحة التنظيم فتكاً بالقوات المتحالفة المتحركة نحو الموصل».
إلى جانب التهديد العسكري والأمني يأتي العبء الإنساني؛ عبء يتجلى في الأنباء المتواترة عن عمليات قتل وتنكيل يمارسها «داعش» بحق أبناء المدينة الذين تظهر عليهم أمارات التمرد، في وقت تُمنع فيه عشرات العوائل من مغادرة الحويجة ويودَع أفرادها الرجال في السجون. أما من يتمكن من مغادرة المدينة فيكون له ذلك بعد دفع مبالغ مالية لا تقل عن 300 دولار، فيما يقضي آخرون على طريق النزوح بالعبوات الناسفة التي زرعها التنظيم في محيط المدينة.
كان جديراً بكل تلك المعطيات أن تدفع تلقائياً نحو تحرير الحويجة وتطهير الشرقاط والإنتقال منهما إلى الموصل، إلا أن «الفيتو» الأميركي حال دون تنفيذ هذه الخطة، كما حال سابقاً دون تحرير الفلوجة قبل الرمادي. بدا إصرار الولايات المتحدة واضحاً على تأجيل معركة الحويجة، على الرغم من أن الزخم الذي ولدته استعادة الفلوجة اتخذ مساره نحو الشمال، متمظهراً في حديث مكثف عن خطط عسكرية وعمليات قريبة. استعجلت واشنطن معركة الموصل سعياً الى استبعاد أي دور لـ«الحشد الشعبي»، فلم يكن أمام الأخير إلا الإلتفاف على قرارها بالإتجاه غرباً.
هذا ما حدث أيضاً قبل حوالى عام من اليوم. في شهر تشرين الثاني/ أكتوبر من عام 2015، كان «الحشد» يستعد لمعركتَي الشرقاط والحويجة بعدما انتصبت العديد من العراقيل أمام معركة الفلوجة. فجأة، ودونما تنسيق مسبق مع الحكومة العراقية نفذت قوات «الدلتا» الأميركية، بالإشتراك مع قوات كردية، عملية إنزال جوي (هي الأولى من نوعها منذ انسحاب الولايات المتحدة من العراق) استهدفت أحد سجون تنظيم «داعش» في الحويجة. زعمت واشنطن حينها تحرير 70 سجيناً معظمهم أكراد وبينهم 20 عنصراً من قوات الأمن العراقية كانوا يواجهون عملية قتل جماعية وشيكة؛ إلا أنه سرعان ما نفت «البيشمركة» وجود أي رهائن لها لدى «داعش» فيما أعلن مسؤولون من بغداد أن الأخيرة لم تتسلم من القوات الأميركية أي سجين عراقي. تردد حينها أن العملية، التي علمت بها السلطات المركزية من وسائل الإعلام، كانت تستهدف تحرير قادة منشقين عن «داعش» يُخشى وقوعهم بأيدي «الحشد» (ولا سيما أن وزير الدفاع الأميركي، حينها، آشتون كرتر، أعلن حصولهم على خزين هائل من المعلومات جراء الإنزال)، بينما ذهب البعض إلى حد اتهام واشنطن بنقل عدد من هؤلاء إلى خارج العراق.
مهما كان الهدف من العملية، غير أن رسالتها لم تحتمل لبساً: الإدارة الأميركية هي من تتحكم في قواعد اللعبة في الحويجة وأي دخول للمدينة لن يجري إلا عبرها. وصلت الرسالة بغداد، وتحولت الحكومة نحو الرمادي وتحول معها «الحشد» مسانداً وداعماً لا مشاركاً مباشراً، قبل أن يعود للظهور بقوة في معركة الفلوجة. اليوم، تكرر الولايات المتحدة السيناريو نفسه على خط الحويجة - الموصل أملاً في تهميش «الحشد» بضربة أخيرة ونهائية، غير أن مسار الأحداث يثبت أنه كلما حاولت واشنطن ضرب «الحشد» في مكان، "نبأ" لها من مكان آخر.