يكفي وضع كلمتي «الصحافة المطبوعة»، بالإنكليزية، على محرك البحث الإلكتروني حتى تظهر مئات المقالات والتقارير والأبحاث العلمية التي تتناول الموضوع، بعيداً عن الشاعرية والرومنسية اللتين تتعامل بهما الصحافة العربية مع هذا الملف. واحد من هذه التقارير نشر عام 2011 على الموقع الخاص بـ «معهد رويترز للتدريب»، يستشهد معدّه بقول أحد الأساتذة الجامعيين إن على المؤسسات الصحافية التوقف عن صناعة منتج لعالم لم يعد موجوداً. ويشير إلى أن تأمين المال آنياً لا يكفي، مشدداً على ضرورة إعادة تحديد ماهية العمل الصحافي. فـ»المجتمع تغير، لكن المؤسسات الصحافية لم تواكب التغيير. دور الأخبار في حياة المواطنين تغير كذلك، وباتت هناك مصادر كثيرة للمعلومات، إلا أن الصحف تواصل الانشغال بأمور كثيرة لا علاقة لها باهتمامات الجمهور وطبيعة حياته».
الأزمة العالمية التي يكرر اللبنانيون الحديث عنها أطاحت عدداً قليلاً جداً من الصحف القوية بسبب اتخاذ الصحف الغربية إجراءات تبقيها على قيد الحياة. أما أزمة الصحافة اللبنانية، فلا تتعلق بالصحافة المكتوبة فقط، وإنما أيضاً بالمرئية والمسموعة، ولا علاقة لها البتة بأزمة الصحافة العالمية. أساس المشكلة أن من يكتب الأخبار والتقارير والتحليلات في لبنان لا يكتبها للرأي العام أو الجمهور الذي تبحث الصحافة العالمية في كيفية استقطابه، إنما لعشرات السياسيين الذين سيسرّون بقراءة هذا الخبر أو التحليل فيكافئون رئيس التحرير. هكذا تجري الأمور: رؤساء تحرير الصحف التي أقفلت ــــ أو في طريقها إلى الاقفال ــــ نادراً ما يسألون عن حركة المبيعات، ولم يسبق أن عقد رئيس تحرير واحد اجتماعاً مع أسرة التحرير لبحث أسباب انخفاض المبيعات في إحدى المناطق والإجراءات المطلوبة منهم لرفعها مجدداً في هذه المنطقة.

أقرضت نايلة تويني
«النهار» مليوناً و700 ألف دولار
من مالها الخاص لقاء فوائد!

في أوروبا، يعقد رؤساء التحرير اجتماعات دورية، ليس فقط مع محرري المناطق، بل مع باعة الصحف في الأكشاك لسؤالهم عمّن يشتري منهم الصحف وأية صحف ولماذا. أما هنا، فثمة رؤساء تحرير صحف لم يسبق لهم زيارة أكثر من نصف الأقضية اللبنانية ولا يعلمون شيئاً عن أهلها، ولا يبالون بالرياضة والاقتصاد والثقافة والشؤون الدولية وغيرها من القضايا. والأنكى من هذا كله أنهم يعتقدون بأن النجاح الإلكتروني يتعلق بعدد تصفح أحد الأخبار، فيكثرون من الأخبار الجنسية السخيفة، مفترضين أن بوسعهم الضحك على «غوغل» كما يضحكون على تجار الإعلانات المحليين. الصحافة العالمية تعتقد أن أزمتها تكمن في تراجع عائدات الإعلانات وأعداد قراء «الورق»، وتنكبّ على كيفية استعادة الإعلانات واستقطاب قراء جدد، فيما غالبية أصحاب الصحف اللبنانية يعتقدون أن الأزمة تكمن في إنشاء الملوك والأمراء العرب وأجهزة استخباراتهم صحفاً خاصة بهم بدل الاستمرار في تمويل أصحاب الصحف اللبنانية، إضافة إلى تفضيل رجال الأعمال تبييض الأموال عبر مواقع إلكترونية صغيرة بدل الاستثمار أكثر في الصحف. والأزمة، هنا، تبدأ من افتقاد الإدارة الحالية لغالبية الصحف للكفاءة الضرورية. ففي أيام جبران تويني الجد وغسان تويني وجبران تويني، كان هناك دائماً في «النهار» رئيس تحرير يثقون به ويوكلون إليه الإحاطة بكل تفاصيل العملية التحريرية. أما السيدة نايلة تويني، فعيّنت نفسها رئيسة للتحرير، ربما لاعتقادها بأنها أذكى من والدها وجدها ووالده وأقدر منهم على إدارة شؤون التحرير. وتقتضي الدقة الإشارة إلى أن الراحل غسان تويني تكبّد عناء رئاسة تحرير «النهار» سبعة أشهر فقط غداة اغتيال النائب جبران تويني، لكنه سرعان ما كلف غيره هذه المهمة، مكتفياً بكتابة مقاله. وطوال أيام «النهار»، كان هناك مدير إداري مختص يخضع لأكثر من دورتين تدريبيتين سنوياً لينجح في عمله. إلا أن رئيسة مجلس الإدارة والتحرير قررت الاستغناء عن خدمات من رافقوا والدها منذ نعومة أظفاره واستبدالهم بمن تنحصر تجربتهم بمثل صغير هو خفض قيمة الاشتراك في الصحيفة من 700 دولار إلى 500. رغم ذلك، وبدل أن تزداد عائدات الاشتراكات تراجعت نحو 300 ألف دولار سنوياً خلافاً لكل القوانين الاقتصادية التي تقول إن الطلب سيزداد على السلعة في حال خفض سعرها. لماذا؟ لأن الفريق الترويجي لنايلة لم يعتمد أي خطة جدية لاستغلال خفض الاشتراك أو منهجته، رغم النصائح الكثيرة التي تلقوها بحصر الخفض بالمشتركين الجدد أو جعله لفترة محدودة أو إطلاق حملة مماثلة للحملات التسويقية السابقة. واللافت، هنا، أن المسؤولين عن تراجع الاشتراكات رغم خفض الأسعار لم يُحاسبوا، بل يواصلون عملهم ويقبضون أجورهم قبل غيرهم.
الفضيحة الثانية تتعلق بفصل رئيسة مجلس الإدارة والتحرير بين ثروتها الشخصية وثروة «النهار». فجميع المواطنين يعتبرون «النهار» صحيفة نايلة جبران غسان جبران تويني. لكن تويني تعتبر نفسها مجرد موظفة في مؤسسة لا يربطها بها أي مسار ومصير. وهي صارحت موظفين في الصحيفة، قبل فترة، بأنها جالت على مراجع سياسية واقتصادية ولم تجد أي رغبة لديهم في دعم الصحيفة أو الاستثمار فيها. إلا أن التدقيق في جداول الحسابات يبين أن تويني هي أول الممتنعين عن الاستثمار في الصحيفة أو دعمها، وإنما اكتفت قبل بضع سنوات بإقراض «النهار» مليوناً و700 ألف دولار من مالها الخاص لقاء فوائد! فلماذا يفترض بالمتمولين الآخرين أن يكونوا أكثر شفقة على الصحيفة من مالكتها؟ قبل ذلك بكثير، اهتزت صدقية رئيسة التحرير حين عرضت أرملة والدها، سهام تويني، حصتها للبيع، وقالت إن ثمة زبوناً جاهزاً. فما كان من نايلة إلا أن تدبرت المال لشراء الحصة بمبلغ تقول مصادر سهام تويني إنه 5 ملايين دولار، فيما تؤكد مصادر الرئيس سعد الحريري أنه 8 ملايين دولار.
هذا كله من بعيد. أما عن قرب، فإن رواتب نحو عشرين محرراً في «النهار»، بينهم المدير المسؤول، لا تتجاوز ألفي دولار، مقابل نحو ثلاثين محرراً تراوح رواتبهم بين ألفين وثلاثة آلاف دولار، ليصل مجموع رواتب جسم التحرير الرئيسي إلى مئة ألف دولار شهرياً.

مخصصات أرملة تويني
وابنتيه والوزير مروان
حمادة وستة موظفين مئة
ألف دولار شهرياً
وفي المقابل، تبلغ مخصصات أرملة النائب السابق جبران تويني وابنتيه والوزير مروان حمادة وستة موظفين آخرين فقط مئة ألف دولار شهرياً. فإضافة إلى الراتب النيابي وما ورثته السيدة سهام تويني، دفعت «النهار» لها خلال السنوات العشر الماضية نحو مليوني دولار، بعدما قرر مجلس الإدارة الاستمرار في دفع راتب جبران تويني لأسرته. وخلال السنوات العشر الماضية أيضاً، دفعت «النهار» أكثر من 2.5 مليون دولار للوزير مروان حمادة والموظفين في مكتبه الذي تبلغ مساحته 125 متراً. لماذا؟ لا أحد من الموظفين يعلم؛ إنها الإدارة الذكية للصحف اللبنانية. أما مخصصات رئيسة مجلس الإدارة والتحرير فتتجاوز مئة ألف دولار سنوياً.
وفي موازاة ظاهرة الرواتب التي تستوجب من رؤساء مجالس الإدارة، في كل الوسائل الإعلامية، تقديم كشوفات واضحة بالرواتب في مؤسساتهم قبل المضي قدماً في التسول والبكاء على الأطلال الليبية والسعودية والقطرية، هناك ظاهرة الإسراف في «التفنيص»: فماذا يدفع صحيفة ــ أية صحيفة في العالم ــ إلى شراء 3 طوابق في أغلى مبنى في وسط العاصمة؟ المبيعات والاشتراكات والإعلانات، وحتى المال السياسي يمكن أن يغطي مصاريف التحرير والورق والطباعة والإدارة وبعض الهدر مثل الرواتب الخيالية لآل تويني، الأحياء منهم والأموات. لكن لا شيء يمكنه تغطية شراء 3 طوابق في وسط بيروت وغيرها. علماً أن تقييم موجودات «النهار» مالياً، وإعادة التخمين، يبين أن لديها أموالاً تغطي كل ما تدعيه من خسائر، ويمكن في حال بيعها أو رهنها تغطية صدور الصحيفة من دون أية عائدات لخمسة أعوام على الأقل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مصادر جدية في الصحيفة تؤكد أن عجزها السنوي يبلغ نحو 3 ملايين دولار، رغم تراجع المبيعات والاشتراكات والإعلانات وكل الهدر الجانبي، وهو مبلغ يؤكد المديرون الإداريون في هذا القطاع أن تأمينه ممكن في حال رفع المبيعات والاشتراكات وضبط الإنفاق. علماً أن الإدارة غير الذكية دفعت «النهار» إلى الاستثمار قبل أربع سنوات بنحو مليون دولار في الموقع الإلكتروني للصحيفة. لكن العائدات من هذا الاستثمار لا تزال صفراً في الحسابات المالية. ويفترض بكل مستثمر يفكر في صرف ليرة في هذه المؤسسة أو غيرها الاستفسار أين ستذهب ليرته وكيف سيضمن استرجاعها في يوم ما. فاستثمار المليون دولار في حملة لزيادة الاشتراكات مثلاً كان سيؤمن استرجاع المليون على الأقل، فيما استثمارها في دعم الصحافة الاستقصائية أو المناطقية في الصحيفة كان سيؤمن قراء جدداً ويرفع المبيعات والاشتراكات وعائدات الإعلانات. والسؤال الرئيسي يتعلق بمن يتخذ القرارات في هذه المؤسسات وبناءً على ماذا ومن يحاسبه؟ ولا بدّ من التذكير مجدداً بأن عدم تحقيق الأرباح شيء والإفلاس شيء آخر. فقد تراجعت أرباح معظم أصحاب الوسائل الإعلامية، لكنهم أبعد ما يكونون عن الإفلاس.
وبعيداً عن «النهار» قليلاً، تنبغي الإشارة إلى أن تكلفة إنشاء استوديوهات وتجهيزاتها كانت تدخل ضمن موازنات التلفزيونات وتدفع أصحابها إلى التذمر من اختلال التوازن بين المداخيل والمصاريف. ولكن حين بدأ هؤلاء بتأجير استوديوهاتهم لمؤسسات إنتاج محلية وعربية لم يسجلوا عائداتها ضمن مداخيل مؤسساتهم الإعلامية، بل ذهبت العائدات إلى حسابات جانبية خاصة.
التمعن في أسماء أعضاء مجلس إدارة «النهار» يظهر أن رئيس الحكومة سعد الحريري يملك عبر ممثلين له نحو 40 في المئة من الأسهم، وآل تويني نحو 40 في المئة، والوليد بن طلال نحو 8 في المئة، فيما يملك آخرون 12 في المئة. واللافت أن مجلس الإدارة حين يتخذ قراراً، ترفض رئيسته تنفيذه بكل بساطة، من دون أن يتمكن أحد من إلزامها بشيء. ولا شك ختاماً في أن ثروات نايلة وميشيل وسهام تويني هو مالهن الخاص، وهن أحرار به ولا يسع أحد مساءلتهن كيف ينفقنه. إلا أن الموظفين البؤساء الذين لم يتقاضوا رواتبهم منذ أكثر من عام يرون تويني تستمتع بمنزل جديد تتجاوز قيمته مليون دولار، وتستمتع بإجازة تمتد شهراً كاملاً في إيطاليا، ويراقبون مواقع التواصل الافتراضي تضج بصور الزفاف الأسطوري لشقيقتها، فيما أبناؤهم يطردون من المدارس. المشهد بشع، وتزيده بشاعة وقاحة الإدارة في «النهار» التي تعرض على الصحافيين الحصول على رواتبهم المستحقة مقابل التوقيع على استقالاتهم من دون دفع شهور الإنذار كما تنص القوانين. وقد بلغت الإدارة في احتقارها صحافييها حد أن تعرض على أحدهم الاستمرار في الكتابة مقابل ثلاثين دولاراً للمقال الواحد، وبمعدل مقال واحد أسبوعياً ليكون راتبه الشهري نحو 120 دولاراً. هناك من يصمد في وجه هذا الابتزاز، لكن هناك من ضاقت بهم الدنيا ولا يسعهم المقاومة أكثر لتأمين حقوقهم. ولا شك في أن افتقاد العمال اللبنانيين لثقافة التضامن والقتال من أجل حقوقهم يتيح لأرباب العمل، تتقدمهم إدارة «النهار»، فعل هذا كله دون أن ينظم الصحافيون أو عمال المطبعة أو غيرهم إضراباً يحرج نايلة تويني ويحول دون إخراج صحيفتها إلى النور ولو ليوم واحد. ولا شك في أن الشفافية تقتضي الشروع بمحاسبة المقصرين والمسؤولين عن تراجع مبيعات جريدة «النهار» نحو 60% منذ عام 2010، لأسباب لا علاقة لها بما يشاع عن تراجع الاهتمام بالصحافة الورقية، إنما تتصل مباشرة بملل الجمهور مما ينشر في الصحف. وتراجع المبيعات يؤدي حكماً إلى تراجع الإعلانات في ظل مواصلة «النهار» الاتكال على كبار المعلنين، فيما بدأت غالبية صحف العالم تأمين موارد إعلانية أكبر وأهم من أصحاب المؤسسات الصغيرة بأسعار تناسبهم طبعاً. ولا بد هنا من دحض الأكاذيب المتداولة عن تراجع اهتمامات الجمهور بالأخبار، فبدل نشرة أخبار واحدة باتت معظم التلفزيونات تعرض أربع نشرات يومياً ومواقعها الإلكترونية تضج بالأخبار، وهناك أكثر من ثلاث رسائل عاجلة ترسل كل ساعة. ثمة ثورة أخبار واهتمام كبير من الجمهور بها. لكن الصحافة التقليدية وصحافيي المكاتب لم يتأقلموا معها، فأخلوا الساحة للمواقع الإلكترونية والتلفزيونات وغيرها. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن استثمار الصحافة المكتوبة في مجال الوفيات فقط خلال السنوات العشر الماضية كان سيؤمن لها مدخولاً إضافياً أكبر من كل المدخول الذي أمنته أخبار الفضائح الجنسية على موقع «النهار» الإلكترونيّ.





«أصدقاء النهار»!

تقول مصادر «النهار» إن سبباً إضافياً للانكسار هو استعانة النائب جبران تويني ببعض أصدقائه داخل الصحيفة لحفظ الأموال العائدة لـ«النهار» في حساباتهم حرصاً على سلامتها في حال حصول أي طارئ أمنيّ أو سياسيّ. لكن الأصدقاء المفترضين لم يعيدوا الأموال التي في عهدتهم بعد اغتياله، وسرعان ما ظهرت عليهم ملامح الثراء الفاحش. إذ اقتنى أحدهم أربع سيارات جديدة ويختاً وفيلا في كسروان وطابقاً سكنياً في الأشرفية، ويتنعم آخر بثلاثة شاليهات في أحد أفخم المنتجعات الكسروانية. وكانت «النهار» قد باعت نصف الطابق السابع في مبنى وسط بيروت، وتستعد لبيع حصتها من مبناها التاريخي في شارع الحمرا لمصرف لبنان مقابل نحو 15 مليون دولار.