يخطر لي أن أقولَ شيئاً حين يغادر السّاهرون. بعد أن يأخذوا حاضِرَهم الذي لا يتوقّف. أن أحتفظَ بصوتٍ مجهولٍ ليومٍ قادمٍ واحد بعد أن تفارقَني كلُّ الأشياء. أن أتعلَّمَ كيفيّةَ الانحسارِ في جزءٍ محدّدٍ من أجل تمرينٍ بسيطٍ على الموت.
أن أتخلَّصَ من هاجس إعطاءِ شكلٍ لكلّ ما لا شكل له، كالألم. أن أخترع هيئةً للحياة حيث يصيرُ الوقتُ مساحةً للعرض، مثل المتاحف. أن أدركَ أنّ العالم ليس ببريء وأنّ كلَّ شيء ينتهي في ما هو دائم.
يخطرُ لي أن أتمنّى أن يترك أحدهم نوراً خافتاً حين ينام، لكي أُكملَ هذا الفراغَ المزمن.
كي أكونَ لا أحد.

■ ■ ■


كلّما اقتربتُ من حجرتي تضاعفت بيننا المسافة.
من حولي يقبعُ تشبّثُ التفاصيل على الطاولة المضطربة. كأنّ لحظةً من صوتك تُقلّب الدفاتر وتحرّك الستارة على مهل، كي تستمرّ الأيام. الأرنب الموضوع في الفرن يكاد يكون أنا. ألوان المائدة تتراوح بين الأحمر والاستغراب.
كم يصير المكان شديد الغرابة حين تحاول استرجاعه بالكلمات.
لم أعد أحبّ تلك الستارة ولا طهو الأرانب بالنّبيذ. حتى عود الثّقاب الذي اشتريتُه من محلٍ لبيع الآلات الموسيقيّة، لم يعد يعني الكثير.
الحيرة الوحيدة في الخارج متروكة للانتظار.
تُغيّر لونها مع النّظرات. النّظرات التي بدأت تتحلّل بعدما تخلّى عنها العالم.
هنا لا يحتاجُ المرء إلى التذكّر. هذه الأشكال عقوبتي.

■ ■ ■


تتفرّجُ من فوقِ جسرٍ افتراضيٍّ
من فوقِ العجْزِ والانقضاءِ
تحاولُ ابتكارَ شيءٍ مختلفٍ، لكن
الجرحَ الذي ترَكَتْه شفتان في باطن كفِّكَ
عند انفِطاركَ بينَ زمنَين،
بمثابة وداعٍ لطيفٍ ومهذّب
لمجملِ الأشياء.

■ ■ ■


الضوء الشّاحب الذي تسلّل من كل مكان، كأنّه يحمل كلّ النظرات المُتعَبة في العالم، وكلّ الأصوات الخافتة والروائح العتيقة، يخلقُ لديّ رغبةً مُلحّة للذهاب إلى السوق لشراء طقم أوانٍ جديد للمطبخ. رغبة مُلحّة وغير مفهومة، بأن أفرش المائدة بشرشف جديد وصحون وفناجين قهوة وعلبة خبز مختلفة عن التي كانت في الخريف الماضي. الخريف الذي يمعن دائماً في استهلاك الأشياء.
علاقة الضوء والنظرة وهذا الخفوت الذي أشكو منه ورائحة البيوت والأسواق، بالرغبات البسيطة، كالإلحاح لشراء أوانٍ للمطبخ، مظهرٌ خاص جداً ومُزمن من مظاهر ما يُسمّى بالحنين.
الحنين العذب الذي يأكل معي على مائدة واحدة وصحن واحد.
الحنين الذي يأكلني.
- كنتُ متأكّدةً من وجود كلمةٍ محدّدة،
كلمةٌ أضعتها في حقول اللّغة والقواميس المكدّسة أمامي
كلمة واحدة تقول لونَ صوتِكَ أو رائحته أو ما تبقّى من وَقعِه بعد أن تُلقي السّلام على كلّ المارّة في حياتِكَ...
لن تذكر بالطبع كيف كنتُ أحاولُ لمسَهُ حيث تتركُه على الطاولة
بين فنجانَيْ قهوتنا المُرَّة وقطعة الحلوى بالزنجبيل التي كنتُ أفتّتها على مهل،
كأنّها قصيدةٌ لا أريدُها أن تنتهي،
كأنّي كنتُ أريدُ أن أحفظَ
نظرَتَكَ على يديّ وحبَّك للونِ أظافري
كأنّي أتحضّرُ لحفظِ فتاتِ صوتِكَ الذي
بدأتُ أفقدُه متحلّلاً في الوقت
في شغور تلك الطاولة والكراسي،
تماماً مثل فَقدي الثّقيل
وكبريائي المغفّل.

■ ■ ■


في هذا الموسم
يصنعُ الحَورُ ندائفَ القطنِ في بلدتي
تتطايرُ عَكسَ الجذبِ
بيضاءَ لا تغطُّ في مكانٍ
من هذه الحياة.
من العَبثِ أن تُلتقطَ أو تُسمَعَ
لكنّني سمعتُكَ
في غابةِ الحورِ القريبة
أو ربّما تخيّلتكَ
قبل أن يَلفُظَ وقتُنا أنفاسَهُ:
قلبُكِ أرقُّ من جؤجؤِ طائرٍ
في موسم القطن.
هل تذكرُ الآن قلبي،
ذاك المنسوجُ أيضاً من نباتٍ خفيف
الأخفّ من الغشيان،
ذاك الذي لم يُصدِرْ صوتاً حين تطاير؟

■ ■ ■


لم أكن أعرف أنّ هذه الشتلة في إصبعي
ستصبحُ شجرةَ زيتونٍ
متماديةً في السّوادِ والمرارة.

■ ■ ■


أفتّش عن صورةٍ للغلاف
لغلافِ هذه المساحةِ حيثُ أعيشُ
لمئتين وتسعينَ مِتراً مربّعاً من الفراغ.
هنا وُهبتُ لوناً لعينيّ
لم أختَرهُ،
وزوايا كثيرة لا تصِلها ريشَتي.
فمي أبيضُ مثل هذا الجدار، مستوحشٌ
الباقي كلُّه هنا
الصّيف القاسي، ثِقلُ الجاذبيّة، النوافذُ المتّسعةُ لكلِّ شيءٍ،
لذاكرةِ الطرقات.
مشهدٌ لطيفٌ، تقولُ النّافذةُ للمارّةِ على رصيفِ الحياة.
مشهدٌ مُقنعٌ
لو كان هناكَ، خارج الثِّقل، ما يُقال.

* شاعرة لبنانية