فيلم ماهر أبي سمرا «مخدومين» الذي يتناول العبوديّة الحديثة في لبنان، أفلت بأعجوبة من شباك الرقابة. زميله فيليب عرقتنجي كان أقلّ حظّاً، إذ وجد نفسه مضطرّاً لـ «محو» صورة رجل الدين عن الشريط (!) وتحويله شبحاً سريالياً، في فيلمه الجديد «إسمعي».
أما الفيلم المصري «مولانا» (عن رواية إبراهيم عيسى، اخراج مجدي أحمد علي) الذي ينتظره الجمهور اللبناني بشوق بعد النقاش المثار حوله في القاهرة (حيث أجيز عرضه)، فما زال ضائعاً في مثلث برمودا، بين الموزّع و«دار الفتوى» وجهاز الرقابة. لا أحد يريد أن يتحمّل مسؤوليّة منعه، فيواجه الرأي العام بقرار عبثي كهذا… ولا أحد يجرؤ على اتخاذ قرار شجاع بعرضه، مخافة «كسر خاطر» المؤسسة الدينيّة التي تقضم الفضاء المدني وتتحكّم بدولة القانون.
فيلم مجدي أحمد علي يصوّر صعود الداعية حاتم الشناوي المتصادم مع الرؤيا الماضويّة، ووقوعه في حبائل الاعلام والسلطة. وهو معرّض اليوم في لبنان، للمنع غير المباشر، عبر تقنيّة التمييع و«الخنق» المبطّن، في غياب مواجهة حقيقية وصريحة. لذا فإننا نطالب أوّلاً بردّ القراءة السطحيّة الاختزالية التي تراه «مسيئاً للاسلام»، في حين أنه بعيد عن التزوير والتجريح. وثانياً، برفض هذا النزوع الشمولي إلى الاعتداء على الفن والادب، عبر تجاهل المسافة الفاصلة بين الواقع الموضوعي أو الحقيقة التاريخيّة… وتجسيدهما في الفن الذي هو أرض المجاز ومرتع الخيال. وأخيراً مطلوب مواجهة مخاطر الوصايات المختلفة التي تتحكّم بالرقيب، وتضطرّه إلى اعتماد «سكّة السلامة»: أي مراعاة جميع الحساسيات والمرجعيات، وبالتالي تقليص دائرة الحريّة. ما يتهدد الحياة الفكريّة والابداعيّة بالتصحّر والعقم والموت. فكل عمل فنّي جيّد، مرشّح لأن يزعج مرجعاً أو سلطة ما، في النهاية!
الثقافة اللبنانيّة تواجه اليوم أزمة مصيريّة، لم يعد يجوز معها الصمت. ولم يعد من الجائز تأجيل النقاش العقلاني الهادئ: أين ينتهي الفضاء العقائدي الخاص بمجموعة من مكوّنات المجتمع، ليبدأ الفضاء العام الذي هو ملك الجميع على اختلاف عقائدهم وانتماءاتهم (بل بمعزل عنها)، ولا يخضع إلا لسلطة القانون والدستور؟ هذا النقاش، على قاعدة احترام كل المعتقدات والقيم التي يتشكّل منها المجتمع اللبناني، هدفه التوصّل الى معادلة راقية وحضاريّة، تعطي للفرد الراشد والمسؤول، الخيار في أن يشاهد أو لا يشاهد، أن يوافق أو يخالف، أن يصفّق أو ينتقد… معادلة توفّق بين الإيمان والمعتقد من جهة، وحريّة الابداع والتفكير والاجتهاد والاختلاف والنقد من الجهة الأخرى. للمرّة المليون مطلوب إلغاء الرقابة المسبقة على الأعمال الفنيّة. وخلق مرجعيّة مهنيّة وأكاديميّة لتصنيف الأفلام حسب الفئات العمريّة. وعند الضرورة يمكن اضافة «تنبيه» أوّل الشريط، مفاده أن العمل الذي سنشاهد «محض خيال ولا علاقة له بالثوابت الدينيّة والحقائق التاريخيّة».
إنّها مسألة مبدأ! أما فيلم «مولانا» بحد ذاته، فبالامكان العثور عليه في السوق بدولارين فقط لا غير…