باريس | لم تنتظر الدول الأوروبية اتفاق فيينا حول النووي الإيراني للمباشرة بتخفيف العقوبات التي كانت تعرقل مبادلاتها مع إيران. الاتحاد الأوروبي استبق ذلك، وافتتح مسار تقاربه مع طهران فور توقيع اتفاق جنيف التمهيدي حول النووي، عام 2013. لكن الضغوط السياسية والمالية الاميركية لا تزال تعرقل هذا التقارب.
ويعدّ الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي الأول لإيران في الغرب، والرابع عالمياً، بعد الصين وتركيا والإمارات، بقيمة إجمالية من المبادلات تقدّر بـ12.8 مليار يورو سنوياً. وبالرغم من أن المبادلات بين الطرفين شهدت انتكاسة كبيرة بسبب العقوبات الدولية (ومن بينها الأوروبية) المرتبطة ببرنامج إيران النووي، والتي كانت قد شملت قطاعات واسعة من اقتصادها، كالنفط والصناعات الكيميائية والغذائية والمعادن، فإن الصادرات الإيرانية تجاه الاتحاد الأوروبي حافظت على مستويات أعلى من وارداتها من المنطقة الأوروبية (7.8 مليارات يورو من الصادرات سنوياً في مقابل 5 مليارات من الواردات).
هذا الحجم من المبادلات مع الاتحاد الأوروبي، بالرغم من السنين الطويلة من العقوبات المفروضة على إيران، ليس بالأمر المفاجئ. فأوروبا كانت سباقة في المبادرة إلى كسر الجليد مع الجمهورية الإسلامية، منذ عام 1998، حين أطلق الاتحاد الأوروبي آنذاك، على إثر تولي الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي (1997 ــ 2005) الحكم، مبادرة لإعادة تطبيع العلاقات مع إيران بعد سنين طويلة من التصادم بينها وبين الدول الغربية. وكانت الهوة قد تعمّقت بين الجمهورية الإسلامية والاتحاد الأوروبي بسبب الدعم العسكري الذي وفّرته دول محورية في الاتحاد، وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا، للعراق خلال حربه مع إيران.
المساعي الأوروبية التوفيقية توّجت عام 2001 بتشكيل لجنة مفوضة من قبل المجلس الأوروبي للتباحث مع إيران بشأن اتفاق متعدد الأبعاد، يشمل المبادلات التجارية و"التعاون الشامل" والحوار السياسي. افتتحت المباحثات بين الطرفين عام 2002، لتكتمل في ربيع 2005. لكن التصعيد الأميركي تجاه الجمهورية الإسلامية بخصوص ملفها النووي سرعان ما ألقى بظلاله على ذلك التقارب الأوروبي ــ الإيراني، ليقوّض مباحثات كانت قد بلغت مراحلها النهائية.
تلت ذلك مرحلة طويلة من التصعيد الغربي تجاه إيران فاقت تلك التي قد سجلت في السنوات الأولى بعد قيام الثورة. وطوال فترة التصعيد التي امتدت حتى إبرام الاتفاق بخصوص النووي الإيراني (تموز 2015)، لم تكتف المجموعة الأوروبية بتطبيق العقوبات التي نصت عليها ستة قرارات صادرة عن مجلس الأمن بحق إيران، بل فرضت من جانبها حزمة من العقوبات الهادفة إلى تضييق الخناق على الجمهورية الإسلامية، وقد فاقت بعض بنودها المتشددة العقوبات الأميركية نفسها.
تخللت تلك الفترة عودة الإصلاحيين إلى الحكم، مع فوز حسن روحاني بالرئاسة في آب 2013، ما مهّد لفترة جديدة من التقارب الأوروبي ــ الإيراني. فما إن وُقّع اتفاق جنيف التمهيدي (تشرين الثاني 2013) حول النووي الإيراني، حتى بادر الاتحاد الاوروبي إلى تسريع إجراءات تخفيف عقوباته تجاه إيران، بالرغم من التحفظات الأميركية على تلك المساعي. وفِي شهر شباط 2014، كانت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، كاترين آشتون، أوّل مسؤول غربي رفيع يزور طهران ويتحدث علناً عن رفع العقوبات وإعادة تطبيع العلاقات مع الجمهورية الإسلامية.
منذ إبرام اتفاقية فيينا حول النووي الإيراني، في تموز 2015، أصبحت العقوبات الدولية والأوروبية، التي كانت تعرقل المعاملات التجارية والاقتصادية مع إيران، في عداد الملغاة، نظرياً على الأقل. وأعلن الاتحاد الأوروبي عن خطة طموحة تهدف الى رفع سقف مبادلاته مع إيران بمقدار عشرة أضعاف مقارنة بما كانت عليه في ظل العقوبات. لكن ذلك بقي حبراً على ورق، إذ لا يزال التقارب الأوروبي ــ الإيراني يصطدم بالضغوط الأميركية. ضغوط لا تقتصر فقط على الجانب السياسي؛ فالولايات المتحدة تسعى لفرض هيمنتها على المجموعة الأوروبية اقتصادياً أيضاً، لأن المبادلات المالية الدولية يمر أغلبها عبر "وول ستريت". وهو ما تستخدمه الإدارات الأميركية كسلاح لابتزاز الشركات الأوروبية التي تتعامل تجارياً مع طهران، عبر التلويح بإخضاعها للعقوبات الاميركية، بحجة أن تعاملاتها تمر عبر بورصة نيويورك. بمثل هذه الحجة فرضت الولايات المتحدة، مثلاً، غرامات على شركات فرنسية كبرى مثل "توتال" وبنك "سوسيتي جنرال"، لجعلها عبرة من شأنها كبح رغبة الشركات الأوروبية في العودة بقوة الى الأسواق الإيرانية.