«لم يتبقَّ من عمري إلّا القليل»، هذا ما تقوله لنفسها حينما يجتاحها الصباح كلّ يوم. رغم أنّها تسكن في الريف، إلّا أنّ أمَّ عمّار تُحكِم إغلاق النوافذ جيّداً؛ فصباح الأراضي الخضراء والجنادب والفراشات لم يعد يثير دهشتها، ولا حتى يقظتَها. بجذعها الأعلى، تقترب من قدميها قبل الخروج من السرير، تحرّك أصابع قدميها بيديها كأنّها توقظ أطفالها الصغار، ثمّ تُحصيها وصولاً إلى الرقم سبعة؛ فهي قد بلغت السبعين عاماً فقط. أمّا الأصابع الباقية، فسوف تحرّكها بعكس اتّجاه العدّ.
أمّ عمّار تعرف أنّ أصابع القدمين تقود إلى الطريق، وأصابع اليدين خُلِقَت للمَلَلِ من تجفيف الدموع. لم يعد ابنها المقاتل إلى البيت بعد. هي التي تعرف تماماً أنّه قد تحوّل إلى مجرم حرب كأيّ رجل حمل السلاح في وطنها. هذا ما يخبرها به دفترُ مذكّراتها الخاصّ، الذي خطّتهُ تجاعيدُ وجهها؛ فكلّ تجعيد يرافق مأساةً سبَّبَها السلاح. وطالما أنّها تلمح وجهها في المرآة كلّ يوم، فهي تعرف تماماً أنّ ذكرياتها لن تكفَّ عن الضجيج لمئات المرّات يوميّاً. كان إحساسها بإجرام ولدها يأتي من رائحته التي لفحَتها منذ المعركة الأولى له. أصابعها التي فركت دموع شوقها، كانت قد لمسَته وبزّتَه العسكريّة. وما إن مسحَت جفونها، حتّى بدأت نار البارود تحرق عينيها، وخطَّ لون الرصاص تجعيداً جديداً في وجهها. ولمّا رأت وجهها في المرآة صباحاً، دمدمَت: «لقد انتابني البارودُ ولونُ تجعيده. آهٍ، لو كان دم الضحايا يلوّث وجوهنا لما كان ولدي ليقتل». لا تفتتن أمّ عمّار بجسدها، لكنّها مسحورة بما تستطيع الحكايات خطَّهُ على الوجوه، وما تستطيع أصابعها نقلَه إلى أنفها. يكفيها أن تبلّل يديها بالماء، وترفعهما في الهواء حتّى تعرف بأنفها كلّ ما يجري، كان هذا الوهم كافياً لها لتشعر بكلّ شيء. ولكي تتخلّص من غلواء الرائحة عليهما، كانت تغسل يديها بالماء طويلاً قبل النوم، فهي تحتاج طهارةً عابرةً كي لا تعلق أيّ جريمة على أصابعها. لم تعد أمّ عمّار تُحضّر الفطور لابنها صباحاً. لقد كان زهوّه باللباس العسكري يُشعرها بكآبة عميقة. وعلى الرغم من معرفته أنّها تكره الحرب، وتخاف البارود جدّاً، إلّا أنّه كان يعاندها بوضع البندقية على الأرض كي يجتاحها وسواس البارود، وتنظّف الأرض عشراتِ المرّات لتنزع أيّ أثر للسلاح من أرض البيت. لقد أحضرت عموداً خشبيّاً ليعلّقَ سلاحَه عليه، فالهواء كفيلٌ بتنظيف البيت من أثره، أمّا الأرضُ فيتيمةٌ. لم يستجب عمّار لوسواس أمّه، بل كان يعاند قرفها منه بشتّى السّبل. ما يشتّتها رائحةُ ابنها التي جعلتها تكشّر في وجهه. ولمّا كان الدّم يطغى على البارود، صارت تخاف أن تمسَّ جسدَه، وتخاف حتّى من الصحون التي يلمسها، ومن مفاتيح المياه التي يشدّها بيديه قبل غسل وجهه. لكنّها في الوقت ذاته تخاف أن تفقد تفاصيل يديه وجلده كاملة. لذا، راحت تخفّف من تكشيرتها الصباحيّة في وجهه كي لا يمنعها أبداً من رائحته. فوجهه لم يعد أمراً هامّاً، ولا حتّى وجوده. إنّما رائحته فقط هي التي تولّد داخلها استجابة عاطفيّة نحوه حتّى لو اختلطت هذه الرائحة بما تكره. بعد أشهر طويلة، أصبح عمّار ميسور الحال، يغيّر بزّته العسكريّة كثيراً، ويضع مالاً في حقائب أمّه التي لا تحتاج إلى الخروج من بيتها في ريفهم المليء بالطرق المرصّعة بصور القتلى. ولأنّ النعناع يخرج من الأرض قربَ باب البيت، فكان يكفيها لتُدهَش بالطعم وهي تأكل. ومال ابنها يتكدّس عليه غبار الحقائب التي يهترئ جلدها جرّاء الإهمال. لم يعد يأتي إلى البيت كثيراً. وإن عاد، فهو يعود مخموراً ونزقاً وقاسي المزاج. بات عليها أن تعرف أنّ أحداً ما قد يغسل بزّته العسكريّة، وهي تخشى فقدان رائحته إن بقيت تكشّر في وجهه. وتعرف أيضاً أنّ يداً أخرى قد تسحب بقايا رائحته منها إن ابتسمت له. لذا قالت في نفسها: «لن أضمّ قاتلاً، ولكنّني سأضحك في وجهه لكي أشتمّه خفيةً». رغم قلّة قدومه، إلّا أنّها ضحكت كثيراً له. وفي مرّات عدّة، كانت تضع البندقية على الأرض كي لا تُشعره بقرفها منه. فقط من أجل أن يأتي إليها دون انقطاع. رغم أنّها كانت تُرهق نفسها كثيراً لمحو الأثر الموهوم عن الأرض.
شيئا فشيئاً اختفى عمّار. أصبح بلا رائحة. لقد اعتادت هي على رائحة البارود، وبات نقاء رائحته معدوماً. وهو اعتاد على إحساسه بنعناع طعامها على جلده؛ فأطراف أصابعها مفعمة بالنعناع الذي لوّث قماش بزّته. لمّا عادت جثّته من الحرب وهي ملفوفة بعلم وطنه البائس، حاولت ضمّه علّها تشتمّه لمرّة أخيرة. إلّا أنّ النفتالين الذي يحفظ فيه الجيش علمَ الوطن قد بدّدَ رائحة عمّار نهائيّاً. حتّى بندقيّته قد صادرها الجيش. لتصبح أمّ عمّار بلا أيّ رائحة تدلّها على حياة مَن ولدت. لم تجلس أمّ عمّار على حافّة قبر ابنها، لأنّه قد اختفى. ولم تعد تنظر في المرآة لأنّها قد عرفت أنّ تجعيد وجهها القادم لن تراه، فنمل القبر هو وحده من سيمرّ عليه.
* كاتبة سورية




المساهمات الابداعيّة في ملحق «كلمات»

يمكن إرسال المساهمات الإبداعيّة (من قصص وقصائد ونصوص حرّة وترجمات وصور فنيّة ورسوم) إلى ملحق «كلمات» في جريدة «الأخبار»، على العنوان الإلكتروني الآتي:
[email protected]
على أن يرفق كل ارسال بالإسم الكامل لصاحبه أو صاحبته، وعنوان الإقامة، ورقم هاتفي لأي تواصل محتمل.
بالنسبة إلى الترجمات الأدبيّة، تعطى الأولويّة لنصوص خضعت لاتفاق مسبق مع التحرير، ويستحسن أن يكون التعريب عن اللغة الأصليّة التي كتب فيها النص. مع تعريف واف بالكاتب (ة) والمترجم (ة).
تحتفظ إدارة التحرير لنفسها بقرار نشر المساهمات المقترحة أو عدمه، من دون أي شرح أر تبرير أو مراجعة.