عندما شرع في كتابة خطاب تنحي الرئيس جمال عبد الناصر في يونيو (١٩٦٧) لم يكن قد استقر تفكيره على وصف الهزيمة العسكرية بـ«النكسة».سألته: «كيف طرأ التعبير إلى ذهنك في تلك اللحظة القاسية؟».
«تسألني بعد كل تلك السنوات والعقود كيف طرأ مصطلح النكسة، وأنا أقول لك أميناً أنني لا أعرف، أظنها مشاعر مواطن لم يكن يقدر على إغلاق أبواب الأمل في المستقبل أمام شعبه».

«انفردت بنفسي لأكتب خطابه الأخير، وكنت أجلس في ذلك الركن من الغرفة التي نجلس فيها الآن، وفي خاطري أن أحلامنا الكبرى انهارت.. فكرت في عبد الناصر وآلامه فوق طاقة بشر وكأنه كبر مرة واحدة عشر سنوات، كان صادقاً في مشاعره وتصرفاته، معتقداً أنه خذل أمة أولته ثقتها كما لم تفعل مع أحد آخر، قرر أن يتنحى، وطلب مني أن أكتب ما اتفقنا عليه من خطوط عريضة، وكنت الوحيد الذي التقاه في ذلك اليوم الطويل.. لم يكن يناور، ففي اعتقاده أن النظم التي تعجز عن حماية حدودها تفقد شرعيتها.. وفكرت في الشعب الذي سوف تصدمه نتائج المواجهات العسكرية في سيناء، لم أكن مستعداً لكتابة كلمة الهزيمة، ولا زلت معتقداً أنني كنت على صواب، كيف أكتب أنها هزيمة والجبهة السورية تقاتل والعراق يرسل قوات عسكرية إليك والجيش المصري ما زالت بعض قواته في سيناء، كان اعتقادي أننا أمام عثرة مؤقتة، وإن كان عبد الناصر لا يستطيع أن يستكمل دوره في القتال فإن أحداً آخر يستطيع، لكن شعبه خرج يومي (٩) و(١٠) يونيو إلى الشوارع يطالبه بالبقاء ويعرض المقاومة ومواصلة القتال».
«للتعبيرات قوة تأثيرها في حركة الأحداث، عندما تقول هزيمة فإن كل شيء قد انتهى، وعليك أن تقر بما جرى وتستسلم له، بينما تعبير النكسة ساعدنا في لملمة جراحنا ودخلت قواتنا المسلحة بعد أيام أحد ملاحمها الكبرى في معركة رأس العش».
«كل ما فكرت فيه أن النكسة وضع مؤقت والهزيمة استسلام نهائي».

طلب عبد الناصر من اللواء حسن البدري أن يتقدم بعرض ما لديه من تسجيلات للجنرالات الإسرائيليين بأصواتهم وصورهم على شاشة في قاعة ببيت منشية البكري


نفس النظرة الاستراتيجية تبناها الفريق عبد المنعم رياض، مستنداً إلى خبرة شعوب أخرى تعرضت لهزائم فادحة، لكن روحها العامة لم تنكسر وأعلنت المقاومة مجدداً.
كان صعود رياض لرئاسة أركان حرب القوات المسلحة المصرية بعد النكسة مباشرة تعبيراً عن ضرورات إسناد المناصب العسكرية للكفاءات القادرة على تحمل مسؤولية القتال.
وقد وضع عبد الناصر الثقة نفسها في رجل آخر، الفريق أول محمد فوزي قائداً عاماً برهان أن شخصيته الحازمة تعيد الانضباط المفقود إلى القوات المسلحة، وتساعد في إعادة بنائها على أسس حديثة.


(١)


بتلك الأيام القاسية طلب عبدالناصر من اللواء حسن البدري أن يتقدم بعرض ما لديه من تسجيلات للجنرالات الإسرائيليين بأصواتهم وصورهم على شاشة في قاعة ببيت منشية البكري.
في جلسة التقييم تواجد رياض، وقادة آخرون، ومحمد حسنين هيكل.
قال رياض: «سيادة الرئيس.. إننا في هذا الذي رأيناه لهم.. رأينا مقتلهم».
سأله عبدالناصر: «أين ذلك؟».
أجاب: «الغرور!».
«أقول وقد تابعت التاريخ العسكري بشكل أو آخر: هذا الذي سمعناه فيه درجة من الغرور أكبر بكثير مما تسمح به حقائق القوة.. سوف نستطيع أن نفاجئهم وأن نضربهم دون أن يتصوروا ودون أن يقدروا التقدير الكافي.. لقد لمحت الثغرة التي نستطيع منها أن نتقدم لكي ننال منهم.. وهي ثغرة الغرور، المهم بالنسبة لنا.. هو المفاجأة».
«أرجوك يا سيادة الرئيس ألا تقبل عودة سيناء بلا قتال حتى لو عرضوا عليك الانسحاب الكامل منها بلا قيد أو شرط».
«لا مستقبل لشعب يتعرض لاحتلال أراضيه ثم لا ينهض لحمل السلاح مستعداً لدفع فواتير الدم».
لم يكن بوسع هيكل حتى أيامه الأخيرة إخفاء إعجابه العميق بكل ما مثله رياض. كلما تذكر حواراً معه، أو ذكر اسمه في سياق عام، كان ينظر أمامه كأنه يطل في مرآة الزمن الذي ولى برجاله وأبطاله.
«رياض ضابط مدفعية ينظر إلى بعيد ويقصف ما لا يرى، وذلك يستدعي أن تكون حساباته للمسافات صحيحة ومعرفته بالمواقع مؤكدة».
«عرفت رياض لأول مرة عن طريق خاله حسن صبري الخولي الممثل الشخصي لعبد الناصر، وكان إعجابه بزعيم يوليو ظاهراً في كلماته وإيماءاته، يؤيد تجربته ومقتنع بها ويشاركه الأفكار ذاتها، وإن أردت أن تستخدم المصطلحات السياسية الحالية فإنه ناصري».
«ثم رأيته مرة أخرى في سكرتارية مؤتمر القمة الأول في يناير ١٩٦٤، ولمحته مرات في مكتب عبد الحكيم عامر قبل أن أعرفه عن قرب وأحاوره طويلاً في الاستراتيجية والأمن القومي ومستقبل الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وتصوراته عما بعد حرب الاستنزاف وإعداد القوات المسلحة لخوض حرب تحرير أراضيها المحتلة في سيناء».
«كان هو الرجل الذي توصل إلى أنه إن لم يكن بوسع قواتنا مجاراة إسرائيل في قدرة سلاحها الجوي فإن بمقدورها إلغاء أثره وفارق تفوقه اعتماداً على الدفاع الجوي وشبكة صواريخ متقدمة، وهو الذي وضع الخطوط الرئيسية لخطة عبور قناة السويس وتحرير سيناء التي طورها الفريق سعد الدين الشاذلي في حرب أكتوبر».
عندما استشهد على جبهة القتال الأمامية في يوم (٩) مارس (١٩٦٩) خرجت في جنازته بميدان التحرير مئات الألوف تردد هتافاً واحداً لخص الموقف كله: «رياض مامتش والحرب لسه مانتهتش».
بذلك اليوم ذاب عبدالناصر في الجموع الحزينة مزيحاً حرسه جانباً.


(٢)


بعد عقود طويلة من عواصف النار في حرب أكتوبر (١٩٧٣) فإن كتابة التاريخ بختم الوثائق المثبتة من ضرورات سلامة الذاكرة العامة وإنصاف أية أدوار لعبت.
هل كانت هناك خطة عسكرية لتحرير سيناء المحتلة قبل رحيل عبدالناصر في (٢٨) سبتمبر (١٩٧٠)؟
وهل «جرانيت ١» و«جرانيت ٢» وهم سياسي روّجه فوزي واعتمده هيكل، كما قال الشاذلي في ديسمبر (٢٠٠٣) على محطة «الجزيرة» في برنامج «شاهد على العصر»؟
حسب رواية فوزي فإنه كانت هناك خطة جاهزة، وقد نشر فصولاً منها في كتبه، وأن الرئيس عبد الناصر صدّق عليها، وأن مصر كانت مستعدة لخوض الحرب في ربيع (١٩٧١).
حسب هيكل فإن رواية فوزي صحيحة، وقد أكدها في كتابه «أكتوبر ـ السلاح والسياسة».
في مقال «استئذان في الانصراف» (٢٠٠٣) أعاد عرض الخطوط الرئيسية لخطتي «جرانيت ١» و«جرانيت ٢»، في العام نفسه نفى الشاذلي تلك الرواية، وأكد أنه لا وجود لهما.
عندما سأله محاوره عن مصداقية رواية هيكل لحرب أكتوبر قال الشاذلي إنه «أكثر الكتاب إلماماً بالاستراتيجية العسكرية، لكن لكل جواد كبوة.. وقد كانت كبوته اعتماد مصدر واحد وهو الفريق فوزي لتأكيد وجود خطتي جرانيت، وأنه لم يراجع أحداً آخر، كما لم يسأله هو في أي وقت عما إذا كانت هناك خطة أم لا؟».
هكذا خرجت القضية إلى العلن سجالاً بين رجال كبار.
تحدث الشاذلي عن اجتماع خاص جرت وقائعه عام ١٩٩٤ في بيت فوزي بضاحية مصر الجديدة حول ما إذا كانت هناك خطة أم لا؟
ضم ذلك الاجتماع الخاص فوزي والشاذلي والبدري.
حسب رواية الشاذلي فإنه سأل فوزي: «يا سيادة الفريق.. أين تركت الخطة عندما غادرت مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة لآخر مرة؟».


وأن فوزي أجابه: «أخذتها معي للبيت».
سأله الشاذلي: «لماذا يا سيادة الفريق؟».
أجابه: «لدواعي السرية». 
هنا قال الشاذلي - حسب روايته: «لا داعي للمناظرة التي اقترحها البدري، فالفريق فوزي يعترف بأنه أخذها معه للبيت، إذن لم تكن هناك خطة، بل كانت هناك أفكار».
كان فوزي والبدري قد رحلا عندما أدلى الشاذلي بروايته الخطيرة. القضية ليست هيكل، ولا رياض، ولا فوزي، ولا الشاذلي، ولا البدري، فرغم أي خلافات أو تعقيدات إنسانية وسياسية، فإن تقدير كل منهم للآخر مؤكد وثابت.
الشاذلي نفسه وصف فوزي في ذلك الحوار بـ«أستاذنا وعمنا».
قال هيكل: «لم اعتمد على الفريق فوزي كمصدر واحد لتأكيد وجود خطة عسكرية وقعّها جمال عبد الناصر للقيام بعمليات واسعة في سيناء».
«كنت موجوداً هناك، سمعت ورأيت وقرأت جزءاً من مقدمة الخطة في بيت جمال عبد الناصر بمنشية البكري في وجود الفريق فوزي».
«حتى ولو لم أكن قد سمعت، أو رأيت وقرأت مقدمة الخطة، بالنسبة لي الفريق فوزي مصدق، فهو - بموقعه وقتها كقائد عام للقوات المسلحة، وبالتوقيت في ظرف لا يحتمل الهزل في حضور الرئيس عبد الناصر ـ شهادته تجب أي شهادة أخرى لم يتسن لها بحكم دورها في ذلك الوقت الاطلاع على الخطة، أو المشاركة فيها». 
«أخذت نفسي في روايتي لأحداث أكتوبر بنظام في التوثيق طلبته صارماً وسعيت إليه مصمماً».
«حوافظ التاريخ في مصر لم تعتد بعد ضم واحتضان وقائعه ووثائقه لكي تؤّمنه وتصونه». «تلك قواعد تستحق الالتزام بها إذا ما أردنا أن نقرأ التاريخ ووقائعه بعيداً عن ضغوط اللحظة».
في تلك الأيام تابع هيكل من بيته الريفي في «برقاش» على شاشة التلفزيون رواية الفريق الشاذلي، مستغرباً أن تصدر عن رجل عسكري محنك وكفء يعرف معنى الخطة.
«فكرة الخطة أهم ما فيها، قبل أن تنتقل الفكرة إلى مشروع والمشروع إلى صورة أخيرة مفصلة بالخرائط». «باليقين فإن الفريق رياض هو صاحب الفكرة».
«في أعقاب عودة جمال عبدالناصر من زيارة الاتحاد السوفياتي بيوليو من عام ١٩٦٨ بدأت شحنات الأسلحة تنتظم».
«وقد كتب الرئيس خطوط توجيه استراتيجي لمعركة تقتضي عبور قناة السويس بالقوة والتمسك برؤوس كباري في الشرق، وتؤدي إلى إلحاق خسائر بشرية كبيرة في القوات الإسرائيلية، لأن نزيف الدم هو وحده الذي يزعج إسرائيل، معركة تطول أسابيع، ولا تنتهي في مجرد أيام لأن إسرائيل لا تحتمل بقاء حالة التعبئة العامة طويلاً، معركة تعطي بطول مدتها فرصة لتعبئة الرأي العام العربي ولفت انتباه الرأي العام العالمي».
«هذا التوجيه محفوظ في ملفات رئاسة الجمهورية وتوجد نسخة واحدة منه في وزارة الدفاع، وقد نشرته في كتاب حرب أكتوبر». 
«كانت أمام جمال عبد الناصر منذ نهاية ١٩٦٨ بداية خطوط لعمل واسع على الجبهة وضعها الفريق رياض، وشاركه في وضعها الجنرال السوفياتي لاشنكو، الذي كان كبيراً للخبراء السوفيات الملحقين بالقوات المسلحة المصرية، وكانت عملية اختبار تلك الخطوط ومحاولات التدريب عليها قد بدأت فعلاً عندما تحوّلت معارك المدافع، التي لم تتوقف على جبهة القتال، إلى عمليات عبور محدود إلى الضفة الأخرى من القناة ـ تدخل إلى المواقع الإسرائيلية، وتواجه تحصيناتها، وتشتبك مع قواته وتتعرض لدورياتها».
«تلقى عبد الناصر صدمة هائلة باستشهاد رياض، غير أن قيادة القوات المسلحة مضت بعزم الرجال في تطوير خطة القتال، وكان أبرزهم الشاذلي، غير أنه من الظلم إهدار دور رياض، وهو من الطراز النادر للقادة العسكريين».
في أغسطس (١٩٦٧) كتب هيكل مقالاً أشار فيه إلى «الحرب المحدودة».
استوقفت الإشارة رياض الذي سـأل عبدالناصر إذا ما كان قد أخبره بفكرة الخطة، التي لم تكن قد وضعت بعد.
«طلب الرئيس مني عدم التعرض لمثل هذه الأمور مرة أخرى وقال إن تفكيرك قريب من تفكير رياض ـ معركة دفاعية لها قدرة الهجوم تلحق الخسائر بإسرائيل وتخلق مرتكزات دفاعية تتكسر عليها القوات الإسرائيلية».
عندما كلفه الرئيس السادات بكتابة التوجيه الاستراتيجي لحرب أكتوبر تدفقت إلى ذاكرته ـ كما كتب بمقاله «الاستئذان في الانصراف» ـ ثلاث خطط محددة، وصفها بالنص ـ والنص هنا ضروري: 
ـ أولاها: الخطة جرانيت (١) وهدفها عبور قناة السويس بقوة خمس فرق من المشاة والمدرعات تعمل تشكيلاتها تحت إمرة ثلاثة من قواد الجيوش يختص كل منهم بمنطقة على الخط الطويل الممتد من بورسعيد إلى السويس، والمهمة للثلاثة عبور قناة السويس بقوة السلاح والتمسك بثلاث رؤوس كباري عرضها عشرة كيلو مترات على الأقل كي تظل في حماية حائط الصواريخ حتى تسيطر على رؤوس الكباري التي تبدأ منها الطرق الرئيسية الثلاثة: الجنوبي والأوسط والساحلي.
ـ والخطة الثانية: هي جرانيت (٢) وهدفها التقدم بعد إتمام السيطرة على رؤوس الكباري في ظرف ثلاثة أيام إلى احتلال مضايق سيناء والسيطرة عليها (بالذات مضيق الجدي) والتمسك بها تحت أي هجمات مضادة لأن ذلك يستنزف القوات الإسرائيلية من ناحية، ويطردها إلى مناطق مكشوفة تماماً ـ وفي الغالب يفرض عليها التراجع إلى خط «أم كتاف» على الحدود بين مصر وفلسطين. 
ـ وأما الخطة الثالثة: وقد أطلق عليها الاسم الرمزي (الخطة ٢٠٠٠)، فهي مجهزة لاحتمال قيام القوات الإسرائيلية الخاصة باختراق قناة السويس في اتجاه معاكس ـ من الشرق إلى الغرب بقصد النفاذ وراء الجيوش المصرية الثلاثة والقيام بعمليات «كوماندوز» لمهاجمة وتدمير، أو شل فاعلية قواعد الصواريخ من طراز سام (٢) وسام (٦) وحرمان قوات العبور من حمايتها. 
ومن الغريب أن تفاصيل هذه الخطة تكاد تشير بالتحديد لمنطقة الدفرسوار وتعهد إلى احتياطي القيادة العامة، وهو فرقتان من المشاة الميكانيكية المتحركة تظلان غربي القناة ولا تشاركان في العبور لتكون لهما حرية الحركة في أي لحظة إزاء أي مفاجأة. 
وقد تم وضع الخطط الثلاث قبل رحيل جمال عبدالناصر، وصدّق بتوقيعه على أولاها، ثم وقع خلفه أنور السادات على جرانيت (٢) والخطة (٢٠٠٠) عندما قدمهما إليه الفريق محمد فوزي في شهر مارس (١٩٧١). 
من الإنصاف أن يقال إن هذه الخطط وبالذات جرانيت (١) و(٢) لحقت بهما زيادات وتعديلات في السنوات ما بين (١٩٧٠ـ ١٩٧٣)، وأن هذه الزيادات والتعديلات رفعت مستواها ودعمتها بخبرات مستجدة وقفزات كبيرة بتكنولوجيا السلاح، خصوصاً في استخدامات الصواريخ، والفضل عائد إلى الرجال الذين تولوا وزارة الدفاع في تلك السنوات، ورؤساء أركان الحرب وقادة الأسلحة والتشكيلات، مما أضاف إلى فكرة الخطة وتفاصيلها، وغيّر أحياناً أسماءها وجعلها علامة بارزة في التاريخ العسكري». 

بعد عقود طويلة من عواصف النار في حرب أكتوبر (١٩٧٣) فإن كتابة التاريخ بختم الوثائق المثبتة من ضرورات سلامة الذاكرة العامة وإنصاف أية أدوار لعبت

هذه شهادة هيكل بحرفيتها.  
بالإضافة إلى ذلك كله لا يعقل ـ بالبداهة ـ أن يأخذ فوزي الخطة العسكرية معه إلى بيته، فوقائع التاريخ تشير إلى أنه غادر لآخر مرة مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة في مايو (١٩٧١) بعد اجتماع عاصف عقده مع بعض القادة، أعلن فيه استقالته لاعتراضه على سياسات السادات.
قال هيكل: «إن فوزي بحكم ما هو معروف عنه من انضباط شديد كان يهتم بالتفاصيل ويؤكد عليها، ومن المستحيل أن يأخذ معه الخطة إلى بيته، فجرانيت ١ وجرانيت ٢ حوالى ألف صفحة، مصحوبة بخرائط تفصيلية، وتقديرات لكل الاحتمالات ودور كل جيش، ولها مقدمة حوالى ٣٠ صفحة تشمل فكرتها الرئيسية، والخطة ـ أي خطة ـ لا يضعها قائد واحد، وقد شارك في صياغة الخطتين أكثر من ٢٥ ضابط أركان حرب، كل في تخصصه العسكري ووفق خبرة سلاحه، والخطة تشمل واجبات كل الأسلحة والجيوش وخبرات متعددة».
وقد دخل على خط المساجلة حول خطتي الحرب السيد سامي شرف: «أدعو ـ مثل الفريق الشاذلي تماماً ـ إلى كشف الوثائق وفتح الملفات، كنت موجوداً في مكتب الرئيس وزيراً لشؤون الرئاسة، وأتاحت الظروف لي أن أتابع من أعلى هرم السلطة الحقائق كما جرت، وهو ما لم يكن متاحاً للفريق الشاذلي». 
«باليقين هناك خطة عسكرية، وصدّق عليها جمال عبد الناصر في سبتمبر ١٩٧٠، كان الرئيس عائداً بالقطار من مرسى مطروح، وكان يرافقه في الرحلة الفريق محمد فوزي، الذي سافر إليه خصيصاً لعرض الخطة في صورتها النهائية، وكان يرافقه أيضاً في هذه الرحلة السيد حسين الشافعي، وكان التقدير العسكري أننا جاهزون لخوض الحرب في ربيع ١٩٧١، غير أن الرئيس رحل بعد أيام، وبدأت مرحلة جديدة بتولي السادات رئاسة الجمهورية».
«لمرة ثانية عرض الفريق فوزي على الرئيس الجديد السادات خطتي جرانيت في قصر عابدين يوم ١٠ مارس ١٩٧١ والجلسة مسجلة في أرشيف الرئاسة».
«عندما بدأ الفريق فوزي يعرض الخطة بتفاصيلها وخرائطها قال الرئيس السادات: أنا كل ما أريده عشرة سنتيمترات من سيناء».
«كنت في موسكو وفور عودتي تسلمت ملفات الخطة ووثائقها وخرائطها، فأودعتها الخزينة الخاصة بمكتبي لحين أن يطلبها الرئيس للتوقيع عليها وإرسالها للقيادة العامة للقوات المسلحة مرة أخرى». 
الوثائق ـ كما يصفها شرف ـ عبارة عن حوالى ١٠٠٠ صفحة في نحو سبعة ملفات فرعية بها خرائط وتفاصيل الخطة، ضمها ملف أسود لميع «لوس ليفر».
«ظلت الوثائق مودعة في الخزينة حتى اعتقالي في أحداث مايو ١٩٧٠، ولا علم لي بعد ذلك: أين ذهبت؟، أو ماذا فعل بها السادات؟».
ما الذي دار ـ إذن ـ في بيت فوزي مع الشاذلي والبدري؟
حسب رواية شرف منسوبة إلى فوزي الذي يرتبط معه بصداقة ومصاهرة.
«لم يقترب الاجتماع بين القادة العسكريين السابقين الثلاثة من قريب، أو بعيد، من خطتي جرانيت ١ و٢، ولا اللواء البدري كتب محضراً عنه».
شهادة الشاذلي، التي استدعت سجالاً بالنظر إلى قيمته، أعادت لفت الانتباه إلى ما نشرته صحيفة «الأهرام» في ٦ مايو ١٩٩٦ موقعاً من خمسة قادة عسكريين كبار تحت عنوان: «تصويبات لمغالطات حول حربي الاستنزاف وأكتوبر». 
في النص المنشور ما يثبت ويؤكد وجود خطة عسكرية مصرية لتحرير سيناء في عهد عبدالناصر. 
الموقعون هم: الفريق أول محمد فوزي، الفريق عبد المنعم واصل، اللواء عبد المنعم خليل، اللواء طيار دكتور جبر علي جبر، واللواء حسن البدري.
في مقدمة المقال قال القادة العسكريون الخمسة: 
«إنه بمجرد انتهاء مرحلة الدفاع النشيطة في فبراير ١٩٦٩ انكبت هيئة عمليات القوات المسلحة على وضع الخطط الهجومية الكفيلة بتحقيق الأهداف المرحلية المنشودة مع مداومة تطويرها طبقاً لمختلف العوامل المؤثرة»، وبذات الشهادة فإن عمليات حرب الاستنزاف جرت بهدف تجهيز القوات المسلحة لتنفيذ الواجبات المنصوص عليها في الخطة. 
من بين القيادات العسكرية الخمسة اثنان شاركا في الاجتماع الخاص مع الشاذلي، هما فوزي والبدري.
عندما نشر هذا الكلام في ديسمبر (٢٠٠٣)، والشاذلي على قيد الحياة، لم يعلق ولم يرد لأسباب ارتآها.
باليقين فهو أحد القادة العظام في التاريخ العسكري المصري، ودوره جوهري في عبور المقاتلين على جسور قناة السويس تحت وابل من النيران.
غير أن الحقيقة التاريخية أكبر من أن تلخص في رجل، أياً كان قدره ودوره.
وقد كان هو نفسه أكثر من تعرض للتنكيل وحذفت صورته من بانوراما أكتوبر.

(٣)


عند ذروة حرب الاستنزاف عام ١٩٦٨ زار الرئيس عبدالناصر بصورة مفاجئة الكلية الجوية، التي كان يقودها العقيد طيار حسني مبارك.
كان بصحبة الرئيس ثلاث شخصيات كبيرة من قادة القوات المسلحة.. فوزي ورياض، والفريق محمد صادق، الذي خلف الثاني رئيساً للأركان بعد استشهاده، ثم خلف الأول إثر خلافه مع الرئيس السادات.
شاءت الأقدار أن يختفي القادة الأربعة، الذين ضمتهم صورة واحدة مع العقيد حسني مبارك في ذلك اليوم.. واحد إثر آخر خلال فترة وجيزة من عمر الزمن.
غاب رياض في مارس ١٩٦٩ ثم غاب عبد الناصر في سبتمبر ١٩٧٠.
ثم وارت الأحداث دور فوزي بعد إطاحته عام ١٩٧١. وأبعد صادق بعد عام واحد (١٩٧٢).
بعد سنوات معدودة من تلك الصورة صعد مبارك إلى مقعد رئيس الجمهورية.
كانت تلك ـ بحسب هيكل ـ نبوءة لخصتها صورة أودعت أرشيف رئاسة الجمهورية.
الصورة تحمل الرقم ١١ في سجلات صور رئاسة الجمهورية ضمن مجموعة من الصور التقطت بذلك اليوم.
«الصورة تبدى فيها المستقبل المصري كأن عرافة دلفي في الأسطورة الإغريقية نظرت في الغيب وقرأت ما سوف تأتي به الأيام».
حصلت على الصورة الأصلية ونشرتها في حينه قبل أن أعيدها إليه، وكان ذلك من حسن الحظ، فقد حُرق الأصل ضمن ما حرق في «برقاش».
«الصور أحياناً لها قوة النبوءة».
غير أن نبوءات «عرافة دلفي» لم تشر إلى ما قد تنزل به الأيام من حوادث دفعت بمبارك خلف جدران السجون ولا توقعت ما بعده.